كانت سوريا حتى انقلاب 8 آذار 1963 دولة تمتلك شعباً مسيساً بكل ألوان الطيف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من المدارس إلى الجامعات والنقابات، فلاحين وعمال، تجار وصناعيين. حرص حزب البعث لاحقاً على تجفيف العمل السياسي وتحويل عملية الانتماء إلى الأحزاب إلى عملية انتهازية ووقائية من شرور وعسف المنظومة الأمنية.
خلال دراستي الجامعية كنت استغرب انتماء بعض الطلاب إلى حزب البعث صاحب الحق الحصري في العمل الحزبي على مستوى الطلبة رغم مخالفته لأفكارهم وآرائهم، كانوا يهمسون لي بسبب عامل الثقة عن أسباب انضمامهم للبعث من رغبتهم لعلامات إضافية في الشهادة الثانوية إلى مزايا التوظيف وبعض المناصب في سلك الدولة، إلا أن الأكثر غرابة هو وقاية أنفسهم من التقارير الكيدية فيما بين العائلات التي كانت تشجع عليها الأجهزة الأمنية لبث الفرقة فيما بينهم خاصة في الأرياف.
هذا المناخ السائد خلال حكم عائلة الأسد جعل المنظومة السياسية معطلة وفي حالة موت سريري؛ فالأحزاب تم حصرها بجبهة وطنية تقدمية استخدمها النظام كمظلة شكلية للحكم، والسلطات الأربعة جعلها خلبية وأفرغها من محتواها لتكريس سلطة عائلة الأسد وبسط سيطرته عليهم.
أتت ثورة الاتصالات والنقل الفضائي ومواقع التواصل الاجتماعي في بداية القرن الحادي والعشرين لتنقل للمجتمع السوري قضايا كان مسكوتاً عنها أو يتم تناقلها ضمن جدران ضيقة خشية المحاسبة الأمنية، فانتشرت أمثالاً شعبية معبرة مثل “للجدران آذان، أمشي الحيط الحيط وقول ياربي السترة” حتى كانت بعض المسلسلات ترسخ تلك المفاهيم مثل مرايا لياسر العظمة وبقعة ضوء ومسرحيات الماغوط الشهيرة التي أفرغها دريد لحام من محتواها وحولها إلى مجرد حالة تنفيس.
جاء الربيع العربي وانتفضت الشعوب المقموعة وحققت بعض الشعوب العربية انتصارات سريعة في تونس وليبيا ومصر مما شجع السوريين على الثورة التي كانت تمتلك كل مقوماتها، وأعطتهم شعوراً بإمكانية التخلص القريب من نظام الأسد مما صرفهم عن عملية تنظيم أنفسهم ضمن إطارات سياسية تناسب توجهاتهم وانتماءاتهم.
اجتهد بعض المنظرين والثوريين بأن عملية التحزب سوف تحدث شرخاً بين الشعب يمكن أن يستغله النظام وحلفاؤه؛ هذا بالإضافة إلى تقاعس بعض القادة عن المأسسة التي تحتاج إلى جهد ليس بالقليل؛ فكرياً وإدارياً واستقطاب الكفاءات وإيجاد روح تُفعلها والتشاركية في صناعة القرار.
إنّ بناء مؤسسات المعارضة بعيداً عن الأحزاب والنقابات المهنية والطلابية ومنظمات المجتمع المدني؛ استغله المبعوث الدولي السابق دي ميستورا في تشتيت العملية التفاوضية عبر منصات ومشاركات وهمية، أعطت هذه البنية الهشة بعض الشخصيات شعوراً مبالغاً بالقوة وأنهم فوق الانتماء السياسي؛ فهم آباء التيارات المحافظة واليسارية والليبرالية والعلمانية والإسلامية رغم عدم وجود مؤسسات تمنحهم الشرعية وتسحبها منهم خاصة أن العملية الانتخابية معطلة خلال الثورة.
إنّ توفر البيئة الحزبية التي تساهم برسم الحل السياسي الوطني ليس بالضرورة أن تكون عاملاً سلبيا؛ فالدول الديموقراطية تتوقف عن الاستقطاب الحزبي والمناكفات البينية أثناء الحروب والأزمات وتتفرغ للتحشيد ضد الخطر الداهم من خلال التوافق على ثوابت وطنية.
ليس هناك خلاف بين كل المحللين السياسيين والاجتماعيين أن الكوادر الشابة هي عماد التغيير وأن عملية جذبها للانخراط في المشروع الوطني ضمن كيانات سياسية هي كلمة السر لإحداث التغيير ونجاح الأوطان والأمم ضمن بنية متكاملة تضم هيكلية واضحة ونظام داخلي معروف للجميع يحاسب بمقتضاه القادة وتمنع من رسم هالة موهومة عنهم.
إنّ الشعب السوري لم يثر لوضع أفراد في سدة الحكم عوضاً عن عائلة الأسد وإنما كان هدفهم بناء نظام ديموقراطي تتكرس فيه الحريات وتفعل فيه المحاسبة دون خوف أو وجل.
تشَكل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية منذ بدايته وفق بنية غير متماسكة وغامضة، كانت تلك البنية الهشة بالإضافة إلى فشل القيادات المتعاقبة على صعيد التطوير ذات أثر سلبي
إنّ المتتبع لواقع الائتلاف ما بعد الانتخابات الأخيرة يلاحظ دينامية جديدة ورغبة لدى القيادة الحالية بتجاوز العقبات والإشكالات المتفاقمة
واضح في عملية التفاعل معه وعلى المقدرة في صناعة القرار واكتساب الشرعية الداخلية والقانونية والدولية فنمت حالة الشللية غير المدعومة شعبياً فنتج عنه أداء غير متوازن غير قابل للرصد أو المحاسبة.
إنّ المتتبع لواقع الائتلاف ما بعد الانتخابات الأخيرة يلاحظ دينامية جديدة ورغبة لدى القيادة الحالية بتجاوز العقبات والإشكالات المتفاقمة والبدء بإيجاد شبكة علاقات مجتمعية على صعيد الأحزاب والمنظمات والشباب والتواصل مع الداخل وبناء رؤية وطنية مقبولة مجتمعياً ودولياً إلا أنّ ذلك يتطلب جهداً مضاعفاً وخططاً تنفيذية وليس مجرد لقاءات.
إنّ قيادة الدول تتطلب تجاوز حالة العمل كناشطين إلى حالة العمل كمنظومة سياسية محترفة تستوعب كل التيارات والانتماءات، تستقطب الكفاءات السياسية والمهنية التي تتقن فكر الدولة، قادرة على العمل الجماعي وتستفيد من كل التجارب السابقة في مؤسسات الثورة.
إنّ بناء كيانات سياسية قوية غير مؤدلجة أساس نجاح الائتلاف، وعندما لا نستطيع بناء أحزاب ديمقراطية راسخة قابلة للتعاون فيما بينها، معبرة عن آلام وآمال الشعب فإن من البدهي أيضا عدم القدرة على إصلاح الائتلاف فغالبية المنتقدين فشلوا في بناء مؤسسات بسيطة وهذا مؤشر سلبي، لذا علينا السير بالتوازي في إصلاح الكيانات والائتلاف الممثل المعترف به دولياً.
إنّ المرحلة القادمة مفصلية؛ فنظام الأسد أصبح متهالكاً وغير قادر على قيادة سوريا والحفاظ على وحدتها، فحتى حاضنته أصبحت غير مقتنعة به وخطابه كضامن وحيد للأقليات لم يعد جاذباً لها ولا حتى للمجتمع الدولي، فهل تنتهز المعارضة الفرصة للتنظيم وتسويق نفسها كجهة مسؤولة متزنة تتعامل مع الجميع وفق المصلحة الوطنية بعيداً عن التناحرات والعصبيات والانتماءات وتتعامل مع محيطها الإقليمي وفق قاعدة المصالح المشتركة دون اصطفافات أو ارتهانات دولية؛ أسئلة مهمة ينتظر الإجابة عليها من المعارضة خلال المرحلة القادمة وبها يتحدد مستقبل وطننا وشعبنا بعد عقد ثوري ملأه نظام الأسد بالمآسي والكوارث، أم يستمرون برحلة التيه والضياع!!؟
المصدر: موقع تلفزيون سوريا