مناظرة روسية أسدية

بسام مقداد

لعلها المرة الأولى التي تنعقد فيها مناظرة غير مباشرة بين مركزين للأبحاث السياسية في كل من موسكو ودمشق، ناقشا خلالها هواجس نظام الأسد حيال الموقف الفعلي للكرملين من الحرب السورية في مرحلتها الراهنة. فقد نشر “مركز دمشق للأبحاث والدراسات” في 13 آب/أغسطس المنصرم ورقة بحثية بعنوان “ماذا ينتظر السوريون من روسيا؟”، بقلم رئيس قسم الجيوبوليتيك في المركز عقيل سعيد محفوض، استعرض فيها الهواجس الرئيسية، التي تشغل بال الموالين للنظام، وليس كل السوريين، على قول الكاتب، في العلاقة مع روسيا. وقد لفتت الورقة انتباه العاملين في “المجلس الروسي الشؤون الدولية”، الذي ساهمت في تأسيسه العام 2011 وزارتا الخارجية والدفاع الروسيتين، فنقل الورقة بحرفيتها إلى الروسية في 10 الشهر الجاري، وقام بمناقشة دقيقة لها نائب رئيس المجلس والسفير الروسي الأسبق في دمشق ألكسندر أكسينيونك، في مقالة مطولة في 11 من الشهر عينه تحت عنوان “روسيا وسوريا: دقائق(nuance) العلاقات التحالفية”. وتجدر الإشارة إلى أن أكسينيونك نفسه، سبق أن نشر مقالة في أواسط نيسان/أبريل المنصرم، أثارت ضجة كبيرة في الصحافة العالمية، لما تضمنته من نقد رصين لاذع للفساد في النظام السوري وفشله في إدارة المناطق التي يسيطر عليها، تزامنت في توقيتها مع مجموعة المقالات الناقدة للنظام السوري، التي نشرتها آنذاك دوريات “طباخ بوتين” الأوليغارشي يفغيني بريغوجين.
يقدم الكاتب السوري محفوض لورقته البحثية بالقول، أن ليس ثمة نهاية قريبة للحرب في سوريا، مما يعني أن وجود روسيا في سوريا سوف يمتد إلى أمد غير معلوم، “بكل الدلالات والفرص والتحديات الملازمة لذلك، لدى الروس والسوريين على حد سواء”. ويبلور الرجل هواجس الأسديين في تسع نقاط، يفرد لكل منها قسماً خاصاً من الورقة، ويرتب تسلسلها وفق أهميتها، التي يراها، فيضع على رأس هذه الهواجس مايسميه “لايقين سوري”، حيث يتحدث عن شكوك الأسديين في “تحول الموقف الروسي” من الحرب السورية، وحيال النظام السوري، إثر الانتقادات الروسية المذكورة أعلاه. ومما يزيد في “اللايقين” السوري، برأيه، هو تصريحات المبعوث الأميركي جيمس جيفري، التي تعكس “غزلاً” أميركياً “بتحول محتمل” في موقف روسيا حيال النظام السوري، وإعلان الموافقة الأميركية على بقاء روسيا، دون سواها، في سوريا، ما يعتبره الكاتب “بمثابة عرض صفقة أو تلميح بإمكانية ذلك”.
ويستعرض محفوض لاحقاً هواجس الأسديين الأخرى، حيث يردد مقولاتهم المعروفة بشأن “قانون قيصر”، الذي “يهدد روسيا أيضاً”، ويهدف إلى إعادة إنتاج الحرب السورية، وتخوف النظام السوري من عدم رغبة حلفائه و”شركائه” الإقليميين والدوليين في مواصلة التفاعل معه بمواجهة هذا القانون. ويرى أن مواجهة سوريا لهذا القانون تتطلب دعم روسيا، التي تدرك أن مخاطر القانون تطال إستراتيجياتها المنطلقة من سوريا، ونجاح أميركا يعني إخفاق سياساتها ورهاناتها في المنطقة، “وعندئذ سوف تبدو روسيا كأنها لم تأت إلى سوريا”. كما يتحدث الكاتب عن نوع من “دَين معنوي” للنظام السوري على الكرملين، إذ يعتبر أن صموده بمساعدة إيران وحزب الله بين العامين 2011 و2015، “أعطى روسيا فرصة غير مسبوقة كي تدشن مرحلة جديدة في سياستها الخارجية ووضعها ومكانتها في العالم”.
ويرى الكاتب أن تنفيذ بنود القرار 2254، يعني إعادة الوضع في سوريا إلى ما كان عليه في آذار/مارس 2011، ولا بد من خلق آلية بديلة لآلية جنيف “الفاشلة”، انطلاقا من منصتي أستانة وسوتشي، ويطالب ب “حوار إستراتيجي” روسي سوري لوضع “أجندة مشتركة” للمستقبل، وأن كل ما يريده السوريون من روسيا هو “وضوح الرؤيا، وإعادة تأكيد أولويات الموقف الروسي في سوريا.
في مناقشته لورقة الكاتب السوري، يقول ألكسندر أكسينيونك، أن العلاقات بين سوريا وروسيا تطورت بعد العام 2011 إلى علاقات تحالف، والتداخلات المعقدة للوضع في سوريا وحولها، خلقت لدى الزملاء في “مركز دمشق للأبحاث والدراسات” بعض الأسئلة المشروعة كلياً في معظمها، والتي تحتاج، فعلياً، لمناقشتها على مستوى الخبراء في البداية. ويقول، أن للعلاقات بين البلدين تاريخاً طويلاً من التعاون في مجالات عديدة، خاصة في زمن حكم الرئيس حافظ الأسد، “رجل الدولة البارز، الذي كان يتمتع بالاحترام في العالم كله”، برأيه. وقد صمدت هذه العلاقات في عهده أمام اختبار حرب العام 1973 مع إسرائيل، والدخول العسكري السوري إلى لبنان خلال الحرب الأهلية، حيث كانت روسيا تشارك بشكل غير مباشر بواسطة المستشارين العسكريين الروس في القوات السورية.
وفي غمز من قناة الأسد الابن، يقول الرجل، بأن العلاقات في عهد والده، كانت “علاقات ثقة”، في حين أن بشار توجه بعد انتخابه نحو أوروبا، وخاصة فرنسا جاك شيراك، ولم يزر موسكو سوى في العام 2005. لكنه يقول، بأن المعاهدات، التي عُقدت مع بشار، لم تكن شكلية، كما في السابق، بل منحت العلاقات بين البلدين نوعية جديدة، وانصبت جهودهما على التصدي للتهديدات الإرهابية وإنقاذ الدولة السورية. وعشية التدخل الحاسم للقوات الجوية الروسية، كان “الإرهاب الدولي” قد بلغ ضواحي دمشق، وكان سقوط السلطة مسألة أيام، على الرغم من مشاركة الوحدات الإيرانية وحزب الله في المعارك.
خلال السنوات الخمس المنصرمة، كان المكون العسكري هو الغالب في العلاقات بين البلدين، وكانت المهمات واضحة، ولم تكن تبرز أسئلة من نوع، ماذا ينتظر السوريون من روسيا. ويتساءل الكاتب لماذا تفجر في الفترة الأخيرة في كل من موسكو ودمشق سيل من الأسئلة مثل، “من بحاجة للآخر أكثر: روسيا لسوريا، أم سوريا لروسيا؟” وما هي أسباب “اللايقين” و”الشكوك”، التي تساور الزملاء السوريين، الذين يتساءلون ما إن كانت روسيا تعتزم “ترك سوريا في مواجهة الضغط الأميركي المتزايد” (التعابير بين المزدوجين من الترجمة الروسية للنص السوري). وما هي التغيرات، التي طرأت على الوضع بعد توقف العمليات العسكرية الكبيرة؟
رد الكاتب الروسي وتطميناته للأسديين كان ملفتاً، إن لم نقل ساخراً، إذ طمأنهم، بأن موقف روسيا “مبدئي” في الحفاظ على مواقع تمركزها العسكري الجوي والبحري في البحر المتوسط، والتي تتمتع بطابع إستراتيجي، وليس لديها “سيناريوهات للخروج” من هناك. كما يرد الكاتب على تأكيد الكاتب الأسدي، بأن روسيا، لا شك، تقارن بين تزايد تكاليف وجودها في سوريا، ومردود هذا الوجود، فيعمد إلى “طمأنته”، بأن النفقات المادية التقنية للعمليات في سوريا، ووفقاً لحسابات وزارة الدفاع الروسية، لا تتخطى حدود الميزانية المرصودة للدفاع، بل هي تتجه، بشكل عام، إلى التقلص، مع اتجاه العمليات العسكرية إلى الانخفاض.
لكن المسألة تختلف، برأيه، بالنسبة لكلفة شرعنة هذا الوجود، إذ ينبغي أن يتوافق مع مصالح دمشق، وليس روسيا فقط، أي وكأن البلدين محكومان بإيجاد توازن للمصالح على الأمد الطويل، وليس في الحرب فقط، بل وفي المرحلة، التي تعقبها.
وبعد أن يستفيض الكاتب في الرد على هواجس الأسديين بشأن التوافقات الروسية مع إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة، بالتأكيد على أن هذه التوافقات كانت لصالح النظام السوري أيضا، ويرد على مطالبة الأسديين بمساعدتهم في إيجاد الحلول لجميع مشاكل النظام الإقتصادية والإثنية والإجتماعية، وإيجاد نموذج لتطور سوريا بعد الحرب، يقول الكاتب بأن الزملاء يتوهمون أن روسيا تمتلك في جيبها حلولاً سحرية لجميع مشاكل سوريا.
ويختتم الكاتب مطولته بالتأكيد على أن تسوية النزاع السوري، يمكن أن تكون نموذجاً لحل النزاعات الأخرى، كما يمكنها أن تضع قنبلة موقوتة تحت مستقبل التطور الداخلي لسوريا، إذا لم يتم استخلاص العبر الصحيحة من دروس العام 2011.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى