لم ترشح معلومات كثيرة عن المباحثات التي أجراها وفدٌ روسي في العاصمة التركية أنقرة حول الملفين السوري والليبي، والتي بدأت أول من أمس، الثلاثاء، واستمرت ليومين، ولا عما ناقشته حول إدلب ومستقبل وقف إطلاق النار في المحافظة الواقعة شمالي سورية، باستثناء ما قامت بتسريبه وسائل إعلام روسية. لكن المباحثات جاءت في ظلّ تصعيد ميداني في المحافظة. ومن المتوقع أن تنعكس معطيات طاولة التفاوض على أرض الميدان، ما يشير إلى خلافات عميقة بين الروس والأتراك حول إدلب، بناءً على عدد من المؤشرات.
وفي السياق نفسه، أفادت وكالة “نوفوستي” الروسية، أمس، بأن المشاورات التي جرت بين موسكو وأنقرة بشأن الوضع في منطقة خفض التصعيد في إدلب، تناولت في يومها الثاني خفض مستوى الوجود العسكري التركي هناك. ونقلت الوكالة عن مصدر تركي قوله إن وفداً فنياً روسياً عرض، أول من أمس، أثناء اجتماع عقد في مقر وزارة الخارجية التركية، اقتراحات بشأن تقليص عدد نقاط المراقبة للجيش التركي في إدلب، لكن الجانبين عجزا عن التوصل إلى اتفاق بهذا الشأن. وأضاف المصدر أنه “بعدما رفض الجانب التركي سحب نقاط المراقبة التابعة له، وأصرّ على الحفاظ عليها، تقرر خفض تعداد القوات التركية الموجودة في إدلب، وسحب الأسلحة الثقيلة من المنطقة”.
وانعكس غياب التوافق بين الطرفين على واقع الميدان الإدلبي. وفي اليوم الأول من المباحثات، سجّل غياب الجيش الروسي عن الدورية المشتركة مع القوات التركية على الطريق الدولي حلب – اللاذقية، ما دفع الجيش التركي لتسيير الدورية بمفرده. وهذه الدوريات المشتركة كان قد أقرها اتفاق موسكو بين الروس والأتراك، والذي جرى على مستوى الرئاسة، في الخامس من مارس/ آذار الماضي. وباتت موسكو تستغل هذه الدوريات للتعبير عن رضاها أو عدمه، من تطبيق التفاهمات بينها وبين أنقرة، من خلال المشاركة فيها، أو الاعتكاف عنها.
كذلك كثّف الطيران الروسي، أول من أمس الثلاثاء، غاراته على مناطق في ريف إدلب الشمالي، حيث شنّ أكثر من 20 غارة على مناطق في محيط بلدة معرة مصرين، ومحيط بلدة الشيخ بحر ومنطقة حرش باتنتة في ريف إدلب الشمالي الغربي، تزامناً مع قصف على هذه المناطق بالمدفعية من قبل قوات النظام. كما شهدت بلدات وقرى جبل الزاوية في الريف الجنوبي من إدلب، القريبة من خطوط التماس، قصفاً مدفعياً عنيفاً من قبل قوات النظام وراجماته، ما استدعى ردّ المعارضة السورية المسلحة على مصادر النيران. وأكدت مصادر من قوات المعارضة الموجودة في المنطقة، أن ردّها أوقع خسائر في صفوف قوات النظام.
وتزامن اليوم الثاني من مباحثات أنقرة، أمس، مع محاولات لقوات النظام للتقدم على محاور في جبل الزاوية، جنوبي إدلب، ما أدى إلى اشتباكات بين قوات النظام وحلفائه من مليشيات محسوبة على روسيا وإيران من جهة، وفصائل المعارضة من جهة أخرى. وذكرت مصادر من “الجبهة الوطنية للتحرير”، لـ”العربي الجديد”، أن اشتباكات دارت بين الطرفين، ترافقت مع قصفٍ لقوات النظام على محور قرية الرويحة في جبل الزاوية بريف إدلب الجنوبي. وبحسب المصادر، فقد جاءت الاشتباكات بعد رصد تحركات لقوات النظام في المنطقة، حيث تسعى الأخيرة وبشكل متكرر، إلى وضع نقاط متقدمة في محور الرويحة. وأوضحت المصادر أن القصف على المحور كان لتغطية محاولة قوات النظام التقدم إلى نقاط أمامية والتمركز فيها وتحصينها، إلا أن هذه المحاولات باءت جميعها بالفشل. وأشارت المصادر إلى أن القصف طاول، ليل الثلاثاء – الأربعاء، قرى بينين والموزرة وسفوهن وبلدة البارة بجبل الزاوية، واستمر صباح أمس باستهداف القرى ذاتها، موقعاً أضراراً مادية في ممتلكات المدنيين. ويمنع القصف المتكرر المدنيين من العودة إلى بلدات وقرى جبل الزاوية تحديداً، وهي المنطقة التي تقع جنوب الطريق الدولي حلب – اللاذقية، “أم 4”.
وتشير هذه المعطيات إلى عدم حدوث أي اختراق لجهة خلق مزيد من التفاهم حول عقدة إدلب، بين الجانبين الروسي والتركي في أنقرة، وذلك خلال المباحثات التي تأخذ طابعاً تقنياً بينهما. هذه المباحثات بات يضاف إليها الملف الليبي، ليشكل مع الملف السوري حزمة واحدة على طاولة الروس والأتراك.
وكانت العاصمة الروسية موسكو قد استضافت، نهاية شهر أغسطس/ آب الماضي، جولة من المباحثات مع الأتراك، برزت خلالها نقاط خلافية عدة حول إدلب، من دون أن يتمكن الطرفان من حسمها خلال يومين من الاجتماعات. هذه الاجتماعات سارت في بدايتها بشكل إيجابي عبر التفاهم حول الملف الليبي، وهو ما كان يتوقع أن ينعكس إيجاباً أيضاً على الملف السوري والوضع في إدلب، قبل أن تتعكر أجواء التفاوض حول سورية، بعد رعاية موسكو لتوقيع مذكرة بين حزب “الإرادة الشعبية” الذي يقوده قدري جميل، و”مجلس سورية الديمقراطية”، الذي يشكل الأكراد غالبية قيادته ويعمل ضمن مناطق الإدارة الذاتية الكردية. وجرى توقيع المذكرة تزامناً مع الاجتماعات بين الوفدين الروسي والتركي، وهو ما اعتبرته أنقرة تحدياً لها، وفق مصادر إعلامية تركية. وأشارت هذه المصادر حينها، لـ”العربي الجديد”، إلى أن الأتراك أصرّوا على حلّ مسألة السيطرة على طريق حلب – دمشق “أم 5” المار من إدلب، والذي بات تحت سيطرة النظام بما يحاذيه من مدن وبلدات تقدم النظام وحلفاؤه إليها خلال الهجمات الأخيرة، مقابل بحث افتتاح طريق حلب – اللاذقية “أم 4″ بجزئه المار من إدلب، والذي تحرص موسكو على افتتاحه بأسرع وقت ممكن أمام الحركة التجارية والمدنية.
في غضون ذلك، يبدو أن الضغط على الوجود التركي في إدلب سيحمل أوجهاً أخرى خلال الأيام المقبلة، إذ شهد محيط عدد من النقاط التركية تظاهرات للنظام. وكان قد سبق التظاهرة تسريب تسجيل صوتي لمسؤول بعثي محلي من المحافظة، يدعو فيه الموظفين والطلاب والبعثيين للاجتماع، ومن ثم التظاهر أمام النقطة التركية في بلدة الصرمان بريف مدينة معرة النعمان الشرقي، وهي نقطة محاصرة من قبل قوات النظام. وأشار التسجيل الصوتي إلى إبلاغ رؤساء البلديات والمخاتير ومدراء المدارس بضرورة التواجد في وقت محدد قرب النقطة التركية في ناحية الصرمان، شرقي إدلب، وذلك تحت طائلة المسؤولية.
وبالفعل، قام النظام، أمس، بحشد المئات من عناصر المليشيات و”الشبّيحة” باللباس المدني من أجل المشاركة في “التظاهرة” أمام النقطة التركية، والتي طالبت بخروج القوات التركية من سورية، كما جرى نقل بعض المدنيين من القرى القريبة التي كانت خارج المناطق التي تقدمت إليها قوات النظام أخيراً، فيما تمّت دعوة قسم من الموظفين من أبناء إدلب، الذين باتوا يعيشون في محافظة حماة، للمشاركة. وأظهرت صور تجمعاً لمتظاهرين قرب النقطة العسكرية التركية في مدينة مورك، شمالي حماة.
وشهدت التظاهرة التي نظمت قرب النقطة التركية في الصرمان، تهجماً من المشاركين على النقطة، ما دفع عناصر النقطة للرد بإطلاق مسيل للدموع لدفع المهاجمين للتراجع. وقالت وزارة الدفاع التركية في بيان حول الحادثة، إن “بعض المجموعات ذات المظهر المدني اقتربت بتوجيه من نظام الأسد من نقاط المراقبة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة الخاصة بنا في منطقة خفض التصعيد في إدلب، وهاجمت نقطة المراقبة السابعة، وتفرقت بعد الإجراءات المتخذة”.
ويريد النظام من خلال التظاهرات أن يوحي بأن أهالي القرى والبلدات التي دخلتها قواته في حملاتها العسكرية الأخيرة هم الذين يريدون خروج القوات التركية من مناطقهم، علماً أن النظام لم يسمح حتى الآن بعودة المدنيين، حتى من مؤيديه، إلى عشرات القرى والبلدات في كلّ من ريف حماه الشمالي، وإدلب الجنوبي والشرقي والأوسط، وحلب الغربي والجنوبي، على الرغم من سيطرته عليها و”تحريرها من الإرهاب”، بحسب روايته. ولا تزال تلك المدن والبلدات بمثابة غنيمة لقوات النظام والمليشيات الحليفة لها لنهبها بطريقة ممنهجة ومدروسة، حيث يعمد العناصر إلى إفراغ المنازل من محتوياتها وفكّ المعادن فيها على اختلافها وفرزها. ويطاول ذلك المنشآت العامة، من مدارس ومشاف ودوائر حكومية، وحتى الكابلات في الشوارع وتحت الطرقات، ليتم تجميعها في الساحات وبيعها لمتعهدين مختصين. ويشرف على كل مدينة أو قرية ضابط أو مجموعة من الضباط من قوات النظام، وقد تحولت إلى مدن وقرى أشباح، بفعل تدميرها وتخريبها الممنهج، وقبل ذلك بفعل القصف الذي طاولها أثناء المعارك.
كما يحاول النظام من خلال هذه التظاهرات الرد على التظاهرات التي خرجت يوم الجمعة الماضي، في المناطق التي لا تزال تحت سيطرة المعارضة في إدلب، والتي خرجت إحداها أمام النقطة العسكرية التركية في بلدة المسطومة، جنوبي مدينة إدلب، وطالب المدنيون والنازحون من جنوبي إدلب وشمالي حماه وغرب وجنوب حلب، المشاركون فيها، القوات التركية بالوقوف عند التزاماتها لإعادة 1.7 مليون نازح إلى مدنهم وقراهم في تلك المناطق. كما طالب المتظاهرون بتطبيق اتفاق سوتشي وحدوده الجغرافية، بما يعني إعادة النظام إلى ما وراء النقاط التركية حول “منطقة خفض التصعيد الرابعة” (إدلب وما حولها)، بأسرع وقت ممكن، وإنهاء معاناتهم مع النزوح.
المصدر: العربي الجديد