كان قيام دولة العدو الصهيوني فجوة في حركة التاريخ في المنطقة أو محاولة لعكس اتجاهه. بفعل قوى خارجية هائلة تكالبت وتعاضدت للتحكم في مصيرها ومستقبلها.
وهنا سنركز على دور الجغرافيا. فرغم ما يتم تهويله من قصص نجاح المشروع الصهيوني في المنطقة العربية لدرجة تسفيه أو تحقير أية محاولة للمقاومة السياسية أو العسكرية في الحاضر أو الماضي أيضًا. فهؤلاء يتجاهلون -بحسن نية، أو سوء طوية- أن كل تلك الأنواع من المقاومة هي التي أوقفت المشروع الصهيوني ضمن أضيق حدود ممكنة من طموحه الذي كان يسعى لإقامة دولة على الأرض الممتدة من النيل إلى الفرات.
وكي لا نذهب إلى المبالغات المفرطة، ولنضع الأمور في نصابها الطبيعي. يجب أن نتذكر مما سلف وأوردناه أن هذا الطموح الصهيوني في حده الأقصى كان يتناقض تمامًا مع التوافق الدولي (الأوربي آنذاك) لمنطقة المتوسط. دون التقليل من شأن المقاومة العربية التي بذلت فيها تضحيات هائلة فردية وجماعية ولم ولن تكن أبدًا سدى.
لذلك نستطيع أن نقول باختصار وبكل واقعية بأن المشروع الصهيوني انتصر ونجح -وبأكثر مما هو متوقع- في الجزء المتوافق مع إرادات الدول الاستعمارية المسيطرة (الإرادة الدولية) وفشل في المناطق غير المتوافقة مع الإرادة الدولية.
في المحصلة قد تم حصر المشروع الصهيوني في منطقة جغرافية ضيقة ومحاصرة من كل الجهات حتى البحر. فإذا علمنا أن أقصى عرض للمنطقة المسيطر عليها من الاحتلال في فلسطين لا تزيد عن سبعين كيلومتر فيجب أن ندرك أن هذا شيء غير ذي قيمة مهمة في العلم العسكري، لا يعني شيئًا من الناحية الاستراتيجية.
إن الكيان الصهيوني هو أكثر من يدرك هذه الحقيقة الجيوسياسية في العالم. وما محاولات امتلاك القوة المفرطة “من طيران وقنابل نووية وغيرها” إلا محاولات للهروب من هذه الحقيقة الصعبة
وإن محاولات طرح مفاهيم “إسرائيل العظمى” بدل “إسرائيل الكبرى” والشرق الأوسط الجديد التي تأمل بأن يكون لها السيطرة السياسية عليه ما هي إلا محاولات للهروب الى الأمام أو القفز على الحقائق. فالقاعدة تقول: بأنه لا سياسة بلا جغرافيا تتحرك فوقها.
والمشروع الصهيوني رغم كل ما حققه من إنجازات فإنه يبقى داخل قوقعة الجغرافيا وخارج نسق التاريخ في المنطقة. وربما كل من يعتقدون أن هذا الكلام فيه مبالغة أو وهم لما يمتلكه هذا الكيان من قوة عسكرية وترسانة نووية. أقول لهم أن ما يتوافق مع حقائق التاريخ والجغرافيا هو الحقيقة وما سواه هو الوهم. وبمجرد أن تمتلك المنطقة إرادتها لن يكون هذا الكيان مشكلة تذكر.
“وظنوا أنها مانعتهم حصونهم..”
وهذه عبرة التاريخ فقبل سنوات من استعادة القدس على يد صلاح الدين كان هناك شبه يقين لدى العامة باستحالة اختراق حصون الصليبيين. لكنها لحظة التاريخ عندما تحين، لا راد لها ومهما طالت فلابد أنها آتية. ومن سمع ما جهر به شيمون بيريز من رعبه بعد أن قرأ تاريخ الغزوات الصليبية يعلم أنه الحق.
أرجو أن يكون ما قدمناه -عبر أربعة أجزاء- من قراءة في تأثير التاريخ والجغرافيا في صنع الماضي لم تكن تقليدية، وأن تكون قد أنارت مناطق معتمة من زوايا الماضي القريب. ولكن في الحقيقة أن ما أردنا الوصول إليه هو المستقبل، لأن أي قراءة للتاريخ لا تهدف لاستشراف المستقبل هي ترف لا داعي له في وقتنا الحالي.
وأعود للتذكير هنا أن ما خطط له للأمة العربية عامة وبلاد الشام خاصة أن تكون ممزقة وضعيفة محاطة بثلاث قوى كبيرة هي تركيا وإيران و(إسرائيل). ولا أريد أن أكون عاطفيا أو منحازًا إلى رؤية التيار القومي الذي أنتمي إليه قلبًا وقالبًا.لكن من التحليل السياسي المنطقي أقول أن كل الدول العربية من العراق إلى مصر، سوف تبقى دائمًا خاضعة لمحصلة قوى الجذب والتنافر بين هذه القوى الثلاث.. ولا يمكن تغيير هذه المعادلة دون أن يتم خلق رقم جديد خارج حسابات سايكس بيكو يستطيع خلق نوع جديد من العلاقات.. ومهما حاولت الدول العربية منفردة أن تغير لن يكون النجاح من نصيبها. لأن الإمكانيات الجغرافية في بعديها المكاني والبشري ليست في صالحها. وكما تقول القاعدة العامة: إن السياسة دائمًا بحاجة لجغرافيا تتحرك عليها.
وكل من يحاول أن يجعل دوره السياسي أكبر من حجمه الجغرافي والديمغرافي سوف ينكفئ عاجلاً وليس آجلاً. وفي الآونة الأخيرة كثرت الدعوات إلى الوطنية السورية. كحاضن نهائي للمشروع السياسي المستقبلي للشعب السوري دون توضيح معالمه. ولا أظن أنه من الجدوى إضاعة الوقت فيه لأن سورية في حدودها وإمكاناتها لا يمكن لها أن تخرج من مدار الخضوع للتأثير التركي والإيراني مع التهديد الدائم من المشروع الصهيوني. فأي مستقبل يمكن بناءه للأجيال القادمة لابد من بنائه على قاعدة تغيير المعادلة الحاكمة للمنطقة العربية أولًا. وعدم الوقوف عند وطنية صنعت حدودها من قبل المستعمر. وأي تفكير داخل صندوقها سيبقينا أسرى لمعادلاته ومصالحه. فالتاريخ يفرش لنا مظلته الواسعة والجغرافيا أمامنا مفتوحة الآفاق. لكن ما ينقصنا هو الرؤيا أولاً والإرادة ثانيًا وثالثًا ورابعًا. وكل شيء يأتي من بعد ذلك.
المصدر: صحيفة اشراق