محنة “سيزيف” الروسي في سورية

علي العبد الله

اتسمت زيارة الوفد الروسي إلى دمشق، في 7 سبتمبر/ أيلول الجاري، بالاستعراضية، إن لجهة تركيبة الوفد، وفد سياسي وعسكري واقتصادي كبير، أو لجهة إيقاعه، وصول الوفد على دفعتين، ومدة الزيارة، ساعات قليلة، إذ وصفت وسائل إعلام روسية الزيارة بـ “التاريخية”، وشخصيات الوفد بـ “البارزة”. من دون تقديم صورة واضحة عن أهداف الزيارة المباشرة ونتائجها الفعلية، فما قدّمه الأعضاء الاقتصاديون في الوفد اقتراحات مشاريع في مجالات الطاقة والبنية التحتية وتحسين الوضع المالي والاقتصادي للنظام السوري، تم الحديث عن 40 مشروعا أساسيا، في حين بقيت الأهداف السياسية للزيارة طي الكتمان، في انتظار رد النظام السوري عليها، طلب مهلة لدراسة العرض.

عكست الزيارة، على الرغم من الاستعراضية العالية، قلقا روسيا متناميا على حصاد سنواتها الخمس في الصراع في سورية وعليها؛ في ضوء الجمود السياسي الذي ميّع “انتصاراتها” العسكرية، واستنزف قدراتها الدبلوماسية، وأثار سحب شك على المآل الأخير للتدخل العسكري في الصراع، معيدا إلى الأذهان تحذير الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لها من الغرق في “المستنقع السوري”، وقد زاد في حساسية موقفها الخسائر البشرية التي ترتبت على انتشارها العسكري في مناطق غرب الفرات وسعيها إلى السيطرة على حقول النفط والغاز في بوادي دير الزور وحمص، ما جعلها عرضةً لهجمات خلايا الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) المنتشرة في هذه البوادي، وتكبيدها خسائر بشرية، بما في ذلك رتبا كبيرة. اللحظة السياسية دقيقة، وتستدعي تحرّكا كثيفا لتعديل الاختلال في المعادلة السياسية والدبلوماسية، والضغط على جهات محلية وإقليمية ودولية، على أمل تحقيق اختراق سياسي، يفتح طريق الحل، أو يخفف من كلفة الغرق في مستنقع مجهول الأعماق.

روسيا في موقف حساس وخطير؛ فهي تواجه تحديات وعقبات صلبة، لعل أولها وأهمها غياب تطابق سياسي بينها وبين حلفائها، فالنظام السوري الذي تصفه دوائر روسية بـ”الحليف الصعب”، غير موافق على توجهها لتثبيت الخريطة العسكرية الراهنة مع الولايات المتحدة شرق الفرات، ومع تركيا في شمال البلاد وغربها. موقف التثبيت كرّره لافروف في المؤتمر الصحافي المشترك مع وزير خارجية النظام، وليد المعلم، في دمشق، والتي تمنعه من التحرّك لاستعادة محافظة إدلب وإلحاق “هزيمة” بالنظام التركي هناك، يراها أولوية مصيرية، كما لا يوافق على التلميحات حول مستقبل النظام، كما عكسته الوثيقة التي وقعتها الرئيسة المشتركة لـ”مجلس سوريا الديمقراطية”، إلهام أحمد، مع أمين عام حزب الإرادة الشعبية، قدري جميل، في موسكو: نظام ديمقراطي، اللامركزية، حل ديمقراطي للقضية الكردية، ابتعاد الجيش عن السياسة. موقف تشاركه فيه إيران، ما جعله يوسّع في انتهاكاته الاتفاق الروسي التركي بشأن المحافظة؛ ويحاول تغيير خطوط التماس فيها بالقضم، عبر التسلل والهجمات المباغتة، موقف فيه إحراج لروسيا التي وجدت نفسها مضطرّة لتثبيت الخريطة العسكرية، في إطار المساومات مع تركيا في أكثر من ملف، بما في ذلك الوضع في ليبيا، من جهة، والاستجابة للضغط الأميركي الذي أعلن تأييده تركيا في إدلب، من جهة ثانية، في تناقضٍ صارخ مع إعلانها المتكرّر أن هدفها المركزي بسط سيطرة النظام على جميع الأراضي السورية، كما لا يوافق (النظام) على تحرّكها السياسي قبل حسم الموقف العسكري.

الحليف الثاني: إيران، هو الآخر ليس على الموجة نفسها، لا يوافق على إعطاء أولوية للحل السياسي؛ لأنه يعتقد أنه مستهدف؛ وأن إخراجه من سورية جزء من التصورات المطروحة، لذا هو يدفع إلى توتير الأجواء باللعب داخل الخطوط الحمراء شرق الفرات ومحافظة إدلب، وينافس القوات الروسية والتابعة لها في الاستحواذ على المناطق، والسعي إلى استقطاب موالين، وتجنيد مقاتلين من أبناء المناطق، خصوصا من العشائر العربية شرق الفرات، كما يرى أن من حقه الحصول على حصّةٍ مجزيةٍ من الكعكة السورية، نظير خدماته العسكرية، والأموال التي قدمها للنظام، ما وضعه في تنافس حاد مع الشركات الروسية، خصوصا على القطاعات الاقتصادية الرئيسة، ووضعه في مواجهة التمدّد العسكري والاقتصادي الروسي في سورية.

لتركيا، حليف الضرورة، أهداف وتوجهات تتعارض مع الأهداف والتوجهات الروسية المرحلية والبعيدة. صحيح أنها مع تثبيت الخريطة العسكرية على الأرض السورية، لكنها تطالب بعودة النظام إلى حدود ما قبل الهجوم أخيرا من أجل عودة النازحين إلى مدنهم وقراهم، ولا تتفق مع روسيا على صيغة الحل النهائي ومصير النظام، وقد كثفت حضورها العسكري على الأرض السورية، بصورةٍ أخلت بتوازن القوى، وجعلت أي مواجهة بينها وبين النظام خطيرة ومكلفة، وقد رفعت تحدّيها روسيا بالتحرك في أكثر من ملف بشكل يتعارض مع مصالح الأخيرة، من ليبيا إلى لبنان والعراق وأذربيجان، مرورا بالاشتباك مع اليونان وقبرص اليونانية، اللتين تربطهما بروسيا روابط عرقية وكنسية، حول المياه الاقتصادية والتنقيب عن الغاز شرق المتوسط.

أما جبهة الخصوم، فالمواجهة فيها أكثر صعوبة وحدّة، خصوم من وزن الولايات المتحدة التي أفشلت محاولات روسية متكرّرة لتعزيز حضورها وانتشارها شرق الفرات، الاحتكاك مع الدوريات الروسية وقطع الطرق ومنع إقامة قواعد ثابتة في ريف القامشلي، في ضوء حديث المبعوث الأميركي إلى سورية، جيمس جيفري، عن طبيعة مهمة القوات الأميركية في سورية: جعل طريق الحرب مسدودا أمام روسيا، ومنعها من التسلل إلى عالم الطاقة شرق الفرات: النفط والغاز، بقطع طرق تفاهمها مع “الإدارة الذاتية”، وعقد صفقات معها، لم تكتف بذلك، بل وأصدرت قانون قيصر لمعاقبة النظام السوري وداعميه، ما زاد في حراجة موقف روسيا، وهي تتابع وضع النظام الاقتصادي المتآكل، وحاجته الماسّة لكل أنواع الدعم، وخطورة تركه ينهار على مصالحها وخططها، وخطورة دعمه في ضوء فحوى قانون قيصر إزاء التعاطي معه، ما يضعها تحت طائلة العقوبات الأميركية، فلم تجد مخرجا من ورطتها سوى دعوة واشنطن إلى فتح حوار شامل حول الملفات السياسية، بما في ذلك الحل في سورية، ومحاولة إقناع النظام بتليين مواقفه إزاء قضايا الحل السياسي، بالاستجابة لبعض مطالب واشنطن والمعارضة السورية، من دون نجاح يذكر.

جاء الوفد العتيد، وفي جعبته تصوّر لإرضاء الحلفاء والخصوم في آن، فعلى جبهة الحلفاء، النظام، خطة دعم اقتصادية شاملة لمجالات الطاقة والكهرباء والبنى التحتية وخط ائتمان بمليارات الدولارات، على أن تكون جزءا من توجه يغطي مجالي الاقتصاد والسياسة، دعم اقتصادي واسع مقابل دفع المسار السياسي إلى الأمام، بما يتقاطع مع المطالب الأميركية، بما في ذلك تقليص دور إيران في سورية، بحيث يتحوّل المسار إلى ورقة في المساومات مع الولايات المتحدة، ورقة لإغواء واشنطن واستدراجها للتفاوض على ملفات سياسية عالقة، بما في ذلك قانون قيصر.

أدرك النظام طبيعة الصفقة التي لا تنسجم مع توجهه العام، فعمل على إحباطها بتأجيل قراره، بحجة دراسة الخطة الاقتصادية، من جهة، ورفض ربطها بالحل السياسي، من جهة ثانية، وهذا دفع وزير الخارجية، سيرغي لافروف، إلى تحاشي إظهار التباين السياسي بين الطرفين، فقدّم، في المؤتمر الصحافي مع وزير خارجية النظام، وليد المعلم، أجوبة دبلوماسية عن بعض الأسئلة، وأجوبة غير مباشرة عن أخرى؛ والبدء بتوتير الأجواء في محافظتي إدلب واللاذقية، جبال الأكراد، بقصفهما بالصواريخ شديدة الانفجار، مع استهداف مواقع تركية، ما اضطر روسيا لمجاراته كي تضبط تحرّكه، من جهة، وتحدّد سقف التحرّك، من جهة ثانية، كي تمنع تطور التحرّك إلى مواجهة مباشرة بينه وبين القوات التركية.

لم تؤتِ الزيارة أكلها، فلا هي نجحت في إرضاء الحلفاء، ولا هي نجحت في إرضاء الخصوم، حيث اشتد الجدل بينها وبين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في الأمم المتحدة بشأن ملف السلاح الكيماوي في سورية. وكان لسوء الطالع دوره بتزامن الجلسة مع انكشاف تسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني بمادة كيميائية: نوفيتشوك. “سيزيف” الروسي في محنة فقد نصب له “العم سام” فخا تقليديا فتح له الطرق ليتمدد ويستنزف ويغرق في أكثر من مستنقع.

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى