ربما من المفيد قراءة كتاب “سيكولوجية الإنسان المقهور” للدكتور مصطفى حجازي، وكتابه الآخر “سيكولوجية الإنسان المهدور”، اللذين يُقدِّم فيهما قراءة نفسية اجتماعية لإنسان منطقتنا، ويسلِّط الضوء على أنماط تفكيره وقناعاته وعاداته، ويعرض أسبابها وآليات عملها. ومثله فعل الدكتور علي زيعور في سلسلته الممتعة والمفيدة “التحليل النفسي للذات العربية-أنماطها السلوكية والاسطورية”، تلك الذات التي تعرضت إلى جرح كبير بسبب هزيمتها المزمنة. ومن المؤكد أن كليهما لم يقصدا التعميم أو التشهير، بل انطلقا من الرغبة في تشريح أمراضنا النفسية الاجتماعية، وصولًا إلى الشفاء؛ فمعرفة الداء وأسبابه نصف الحل، ووعي الظاهرة مقدمة لحلها.
وربما من المفيد اليوم رؤية السوري في مرحلة الهزيمة؛ التبدلات العقلية والنفسية الي طرأت عليه عمومًا، بصرف النظر عن منبته الاجتماعي أو قوميته أو طائفته أو جنسه أو موقفه السياسي، وهو موضوع دقيق وحساس، ويحتاج إلى دراسات متخصِّصة، لكن هذا لا يمنع من تسجيل أيٍّ منا مشاهداته الشخصية التي، بطبيعة الحال، لا ترقى إلى أن تكون حقيقة غير قابلة للدحض أو التفنيد.
هناك ملامح عامة تشكِّل قوام شخصيتنا المكسورة اليوم؛ على الرغم من أنها قديمة، وموجودة في كل مجتمع ينتمي إلى دائرة المجتمعات المتأخرة، إلا أنها استفحلت لدينا اليوم بعد الانكسارات المتوالية، والخذلانات المتكررة، ومشاعر الإحباط المسيطرة، وتشظِّي المرء بين مشاعر الحنين إلى وطن حقيقي مستقر، ومشاعر طرد سورية والسوريين من الذاكرة، والبدء بفتح صفحة جديدة في بلاد الله الواسعة.
ثمة ملامح عامة لشخصيتنا اليوم، السوري المكسور، مبنيِّة على مشاهدات وانطباعات لا ترقى إلى العلميّة، ولا يمكن تعميمها، كما لا يمكن حصرها بالسوريين وحدهم، بحكم وجودها في مجتمعات كثيرة، ولا يمكن النظر إليها بوصفها صفات ثابتة، تنتقل وراثيًا من جيل إلى آخر، بل بوصفها مكتسبة أساسًا، ولا شك في أن هناك دورًا أساسيًا للبيئة السياسية الاقتصادية الثقافية في تكوينها، فضلًا عن تأثير الخسائر الكبيرة التي لحقت بنا، والأحوال الاستثنائية التي نعيش فيها. ولا يصبّ تسجيل هذه المشاهدات أو الانطباعات في إطار جلد الذات، أو الاستعلاء، بل في إطار الرغبة في الانتباه إليها والتحذير منها، لأن ترسّخها سيزيد من شدة مأساتنا، وأملًا في الحدّ منها، على أن صاحب هذه الانطباعات نفسه لا يدّعي براءته منها بدرجة ما.
الذات العارفة؛ تحمل الذات المكسورة تقديرًا مبالغًا فيه لنفسها، فهي عارفة بحقول المعرفة كلها، لسان حالها يقول عند كل حدث سياسي (ألم أقل لكم؟)، فتحليلاتها السياسية وتوقعاتها كلها صائبة، ولا تخطئ في التقدير أو القراءة، وهذا أمر مدهش لأنه لا يجيب عن سؤال بديهي: من أين جاءت هذه الكوارث كلها في قراءة وتحليل الواقع والسياسة والتاريخ؟
يفتقد السوري المكسور إلى التواضع، يقرأ صفحة يصبح عالمًا، يكتب بضعة أسطر يصبح كاتبًا، يحفظ بيتين من الشعر يصبح شاعرًا، يحفظ آيتين قرآنيتين يصبح شيخًا أو داعية. السوري المكسور شخصية فهلوية، هاجسها في أي ردّ تكتبه هو لفت انتباه الآخرين إلى مقدار ذكائها. صدق من قال إنه كلما ازداد المرء علمًا كلما ازداد تواضعًا، والعكس صحيح.
العلاقة بالآخر؛ تكاد تسيطر الروح العدائية وكره الآخر، أي آخر، على الذات المكسورة، فتراها لا تحترم أحدًا، وتشكِّك في كل شيء، وهذا يخفي سعيها لإثبات وجودها الذي ربما تفتقد ما يدعمه في ماضيها أو واقعها، فلا تجد أمامها وسيلة لذلك إلا النيل من الآخر. الإمعان في تعظيم أخطاء الآخرين مثلًا دلالة على عطب الذات، وشكل من أشكال الدفاع غير الواعي عن الذات المهزومة، المجروحة، المعطوبة، أو محاولة لتبرئة الذات أو الإعلاء من شأنها بطريقة غير مباشرة.
يرتبط بذلك أيضًا محاولة الذات المكسورة الصعود على أخطاء الآخرين، وهو صعود، إن حصل، سلبي؛ لأنه لا يعتمد على قدرات الذات وإنجازاتها: “أقتل مشهورًا تصبح مشهورًا”. وكذلك، محاولة تبرير الذات المكسورة لأخطائها بإثبات أو ادعاء أن الجميع مخطئون، إذ تسعى الذات المكسورة لتحطيم غيرها بهدف الوصول إلى قاعدة تساوي الجميع في الخطأ، وفي هذا تبرير سلبي لوجودها وأخطائها.
تتضح أيضًا درجة العدائية أو التباعد السائدة اليوم بسيطرة ظاهرة الضحايا الذين يرغبون في أكل لحم ضحايا آخرين على المشهد، بدلًا من تكاتف وتعاون الضحايا، وبظاهرة سعي كثيرين من السوريين لعدم الاختلاط بسوريين آخرين في مناطق سكنهم أو في رغبة السوري المكسور في السكن بعيدًا عن سوريين آخرين.
استكمال التحطيم؛ في الحطام الذي نعيش فيه، هناك رغبة تكاد تكون سائدة لاستكمال عملية التحطيم، ليس تحطيم الأفراد فحسب، بل والأعمال التي كان يمكن أن تشكِّل ضوءًا، وهذا السلوك شكل من أشكال العبثية أو الرغبة في العدمية في ظل انسداد الآفاق: نريد شيطانًا لنرجمه، وإن لم نجده سنخترعه. لذلك، تتكرر كثيرًا، لدى الذوات المكسورة، مثلًا، عبارة “إسقاط كل من ركب على الثورة”، إلى درجة توحي بأن عدد من “ركبوا على الثورة” أكثر ممن قاموا بها.
في أحوال الهزيمة تشتغل، عند الذات المكسورة، آليات الهدم، وتضمر آليات البناء؛ فالهدم سهل جدًا، والبناء صعب جدًا. وفي ضوء ذلك، تغيب رقابة الضمير عند الذات، بما يسمح لها بممارسة هواية التخريب بسعادة؛ يمكنها خلال دقائق مثلًا أن تنشر شائعة خطرة، وتطير فرحًا عندما تنال الاهتمام والمتابعة من الآخرين.
الرؤى المتشظية؛ لا شك في أن الروح المكسورة ستنتج رؤىً مكسَّرة أو متشظية. ليس هناك ما هو أسهل من اكتشاف التناقضات بين الرؤى/المواقف التي تطلقها الذات المكسورة، خلال مدة زمنية قصيرة، ولا أسهل من اكتشاف سياسة الكيل بألف مكيال لدى الذوات المكسورة. الذات المكسورة تنسى غالبًا آراءها ومواقفها، وتجد نفسها غير معنية بتحقيق الانسجام أو التكامل فيما بينها، تُطلق مواقفها وآراءها استنادًا إلى معلومات جزئية ومعطيات بسيطة وسطحية وانطباعات سريعة ومباشرة، ولا تتراجع إن اكتشفت خطأها. وأحيانًا تُظهر تطرفًا فاقعًا إزاء حدث أو قضية، أو تطرح مفارقة صارخة، ربما طمعًا بالشهرة أو التميّز: تَطرَّف أكثر لتشغل الناس أكثر، ولتصبح مشهورًا أكثر. في المقابل، لعل أكثر ما يشغل بالَ الروح المكسورة، عند تناولها لنصّ مكتوب مثلًا، هو محاولة إثبات تناقضات كاتبه، وعدم انسجام مواقفه في محطات أخرى، من دون أن تهتم فعلًا بأفكار النصّ المكتوب، وهذا أيضًا دفاع غير واعي عن تناقضاتها وتشوّشها هي نفسها.
الضجيج والصخب؛ هناك ضجيج وصخب كبيران داخل الذات المكسورة، تكره الهدوء والتأمل والتفكّر، ويظهر ذلك في مشاركتها “الموتورة” والعصابية والمشوَّشة في كل مسألة تثير ضجيجًا وصخبًا، معتقدة أنها تسهم بفعالية في “قضايا الرأي العام”، فيما هي عمليًا، وفي المآل، تشارك في ترسيخ طقس من الثرثرة غير المفيدة في الحدّ الأدنى، وحالة من الضجيج المضلِّل والخطِر في الحدّ الأعلى.
ولذلك، تميل الذات المكسورة نحو استسهال طرح وتناول القضايا، والتسرّع في إبداء الرأي، والتحشيد بطريقة غوغائية أو شعاراتية أو استعراضية، وتغطي فقرها الروحي والفكري بالصراخ والعويل والندب والظهور بمظهر المدافع عن فكرة أو قضية تقدِّمها بطريقة سطحية ومتطرفة، وقد يكون أداؤها هذا تعبيرًا عن حاجتها إلى تفريغ التوتر الشديد الملازم لها، وليس غريبًا أنها قد تشعر بالرضا الذاتي عندما تلقى آراؤها ومواقفها جدلًا واسعًا حتى لو تعرضت للنقد الجارح أو الشتيمة، فالمُهِم لديها أن تحصل على اهتمام الآخرين.
وباعتبار الذات المكسورة حافلة بالتوترات، فإنها شعورها بالرضا مؤقت بالضرورة، ولذلك تنتقل إلى البحث عن شيء آخر يحقق لها مزيدًا من تفريغ التوتر والرضا، من دون أن تمتلك فرصة للتأمل بنفسها، وبالآخر، والواقع، ومن دون أن تدرك أن الضجيج والصخب يزيدان من مأساتها، ومأساتنا في آن معًا.
أدبيات الحوار؛ كانت أدبيات الحوار الأساسية غائبة أصلًا، لكن ما يلفت الانتباه، بعد وضوح الهزيمة، هو غياب الحوار نفسه، لا يوجد حوار، هناك مواقف وكتابات وتصريحات وانطباعات تنتمي إلى دائرة الشتائم والمهاترات لا الحوار، وأصبحت البذاءة في التخاطب مساوية للحرية والتحرر وقوة الشخصية، وغدا استخدام الحذاء والبصاق (التفو) في التعبير عن الرأي والموقف شائعًا، وأُتخمت وسائل التواصل الاجتماعي بالمنشورات التي تفتقد إلى الحب والتضامن والنيات الإيجابية.
التوتر والانفعال؛ من الطبيعي أن تغرق الذات المكسورة، في ظل ما تعرضت له من قهر وهزيمة، في الاكتئاب والإحباط وفقدان الأمل بدرجات متفاوتة، وقد تشعر بعض الذوات أحيانًا بالندم على التضحيات التي قدمتها، وكلما ازداد حجم الخسارة، بالتزامن مع انسداد الآفاق، ازداد مستوى التوتر والانفعال، وقد تولِّد الخسارة أحيانًا مشاعر سلبية ترتكز على مقارنة الذات نفسها بالآخرين، اجتماعيًا واقتصاديًا، فضلًا عن مقارنة تضحياتها بتضحياتهم. ومن الطبيعي أيضًا أن تستعر ظواهر الخلاص الفردي، وربما تضمر الروح المبدئية في أمور كثيرة؛ النفاق للدول أو لأصحاب العمل، صناعة الفخاخ للآخرين، التنافس السلبي…إلخ.
من الطبيعي أيضًا، مع ضمور الفرح ومساحة الذكريات الإيجابية، ومع العيش في وطن لم يشكل حالة احتواء لأبنائه، أو في بلدان المهجر التي لسبب فيها أو فينا، عجزت عن إدماجنا أو احتوائنا، أن تتسع مساحة الكراهية لدى الذات المكسورة، ويقينًا إنه لا يوجد حب من دون احتواء.
أخيرًا؛ منعًا للصيد في الماء العكر، ولتفسير المقالة بغير مقاصدها الإيجابية، أقول: كلنا مكسورون ومهزومون، وإننا نحتاج اليوم، قبل كل شيء، إلى الاعتراف بهزيمتنا وعجزنا، وإلى التواضع والهدوء والتأمل.
المصدر: المدن