“أبناء المجهول”.. تحقيق استقصائي سوري يفوز بجائزة سمير قصير لحرية الصحافة

مصطفى أبو شمس

وقفت «هبة الله» ذات الثلاثة عشر عاماً مع مجموعة من النساء في صف طويل، ينتظرنَ الحصول على أكياس الأرزّ والمعكرونة، التي كانت توزعها جمعية خيرية في حيّ بستان القصر شرقي مدينة حلب. كانت ترتدي ثوباً أسودَ اللّون، رفعته بكلتا يديها كي لا تتعثر في المشي؛ لربّما استعارته من خزانة والدتها أو حصلت عليه من حملة تبرّعٍ بالملابس. كان ذلك في منتصف عام 2016، وكانت حلب الشرقية آنذاك ما تزال تحت سيطرة فصائل المعارضة السوريّة.

تحت حرارة أربعين درجة مئوية، لم تعثر «هبة الله» على اسم لها أو لوالدتها في قوائم الجمعية. طُلب إليها التنحي عن الدور، فجلست إلى الرصيف وغَرِقت في نوبةِ من البكاء. مشيها وجلوسها أظهرا تكوّر بطنها، وكشفا عن حملها الذي تحاول أن تخفيه عن أعين الناس. أفرجت الطفلة بعدها عن بضع كلمات، روت فيها لكاتب التحقيق الذي جلس إلى جوارها أنّ أخاها الوحيد كان مقاتلاً في صفوف داعش في منبج شمالي سوريا. تابعت وقد تحوّل بكاؤها إلى نحيب، أنّ أخاها كان قد زوّجها من أميره السعودي، وأنّ حملَها جاء ثمرةً لهذا الزواج.

«لا أعرف عن زوجي أي شيء… لا اسمه الحقيقي ولا أسرته ولا أين يتواجد الآن»، قالت «هبة الله» شارحة أن زواجها لم يستمر سوى بضعة أشهر قبل دخول قوات سوريا الديمقراطية إلى منبج، وهروب المقاتل تاركاً إياها ووالدتها يواجهان مصيرهما. عادت بعدها مع أمّها إلى مدينة حلب، طفلة حاملاً بطفلة.

ينسدل الثوب عن رأس «هبة الله» فتعيد لفّه بارتباك، فلا يظهر سوى وجهها المرهق وعيناها الخضراوتان المتعبتان: «أرتدي الثياب الواسعة حتى لا يسألني الناس عن قصّة حملي… لا أريد أن أكون عُرضة للسخريّة».

كان ذلك اليوم هو بداية معرفتنا بـ «هبة الله». بعد لقائنا القصير الذي أعقبته محادثات هاتفية متكرّرة، علمنا أن الفتاة حملت الجنين داخل أحشائها في رحلة التهجير القسري بالحافلات الخضراء إلى واحد من مخيمات أطمة على الحدود مع تركيا نهاية العام 2016. هناك وضعت مولودتها «فرح»، باحثة عن طريقة لتضيف اسمها إلى قيود السجل المدني.

إنه حال عشرات الأطفال مجهولي النسب وأمهاتهنّ، اللّواتي تزوجن من مقاتلين أجانب، وسط بيئة تشريعية واجتماعية ترفض الاعتراف بهذا الزواج، وتصل في بعض الحالات حد اعتبار هؤلاء الأطفال «قنابل إرهابية» أو «ثماراً للتطرف».

كنَّ يطرقنَ الأبواب

سجّل العام 2012 قدوم عشرات المقاتلين الاجانب بشكل فردي وغير منظم. دخلوا الأراضي السورية، وانضموا إلى الفصائل المقاتلة في حينها. مع نهاية العام نفسه بدأت تتشكل ملامح لكتائب إسلامية سلفية أو جهادية، بعضها ارتبط بتنظيم القاعدة كـ «جبهة النصرة» و «تنظيم الدولة» قبل انفصال الأخير عنها، فيما حمل آخرون فكر القاعدة دون مبايعتها كـ «جيش المهاجرين والأنصار» و«جند الأقصى» و«الحزب الإسلامي التركستاني».

مع اتساع رقعة سيطرة هذه الحركات والكتائب، خاصة داعش والنصرة (بمسمياتها المختلفة التي تحولت إليها على مراحل، وآخرها هيئة تحرير الشام)، حتى زادت في منتصف العام 2015 عن ثلثي مساحة الأراضي السورية، ومع نشاط الحركة الدعوية للانضمام إلى هذه الجماعات، تدفقت أعداد أكبر وأكثر تنظيماً من المقاتلين غير السوريين.

«منهم من أتى بصُحبة زوجاته، إلّا أن النسبة العظمى منهم، ومع طول المدة والاستقرار النسبي الذي عاشوه، بحثوا عن زوجات لهم من المناطق التي سيطروا عليها»، يقول الباحث أسعد المحمود المقيم في إدلب، مضيفاً أن «الهالة الجهادية التي ارتبطت بهم، والأموال التي جلبوها معهم أو تحصّلوا عليها من الغنائم، والمناصب التي شغلوها، جذبت عدداً ليس قليلاً من النساء للزواج بهم».

وفقاً لشهادات متعددة، دأبت التنظيمات على إرسال «خطّابات» إلى بيوت السكّان، يطرقنَ الأبواب بحثاً عن فتيات بعمر الزواج. تقول إحداهنّ وقد عملت «خطّابة» لدى هيئة تحرير الشام، وكانت تقوم بدور الوساطة في إيجاد الزوجة المناسبة للمقاتلين الأجانب في قرى ريف إدلب الجنوبي، إنها تعرفت على عدد من المقاتلين عن طريق ولدها الذي انضم إلى الهيئة، وإنها وجدت فيهم «حُسناً في الخلق ورغبة في الزواج». وتضيف: «أعرف معظم بنات القرية، وقد اخترتُ لهم نساء من عائلاتٍ فقيرة، أو كبيراتٍ في السن، أو نساء من الأرامل والمطلقات».

تكمل السيدة التي طلبت عدم نشر اسمها، أنّ المقاتلين لم يكن لهم أيّ شروطٍ خاصة، «لذلك كانت الخيارات كثيرة»، وأن معظم عقود الزواج كانت تتم باستخدام الألقاب، لا الأسماء الصريحة للأزواج.

وعلى ما يبدو كانت المحافظات الشرقيّة أكثر مناطق البلاد التي شهدت حالات زواج للمقاتلين الأجانب من سوريات. يقول الباحث أسعد المحمود «بالمقارنة مع الرقة ودير الزور والمناطق الشرقية من ريف حلب (الباب وأريافها)، فإن عدد الأطفال مجهولي النسب في المدن والأرياف التي لم تخضع لسيطرة التيارات الجهادية كمدينتي إعزاز ومارع وبعض قرى ريف حلب الغربي وأرياف حماة كان قليلاً». أما مناطق سيطرة جبهة النصرة، فهي لا تزال تشهد زيجات من مقاتلين أجانب حتى الآن.

العدد الأكبر لدى داعش

في بيئة خطرة يُحظر في معظم مناطقها التعاون مع الصحافة، مثّلَ الحصول على صورة تقريبيّة لأعداد الأطفال مجهولي النسب تحدّياً كبيراً لمعدّي التحقيق. احتاج البحث إلى أربعة أشهر من المراجعات الكثيفة لقضاةٍ في محاكم مدنية، فضلاً عن موظفين في دوائر النفوس المدنية والمجالس المحلية، ومسحاً في عدة مناطق شمالي البلاد بمساعدة منظمات إنسانية مختصة، لجأ خلالها فريق التحقيق إلى التذرّع بأسباب مختلفة للحصول على المعلومات.

حصلنا على جداول توثّق أسماء 1826 طفلاً في إدلب وريفها وريفي حماة الشمالي والغربي سجلتهم حملة «مين زوجِك»، زودنا بها القاضي السابق المنشق عن النظام محمد نور حميدي أحد المسؤولين في الحملة. هذه المناطق كانت في معظمها خاضعة لـ هيئة تحرير الشام وقت إعداد التحقيق، وتشير البيانات إلى أن هؤلاء الأطفال نتجوا عن 1124 من أصل 1735 واقعة زواج.

يُذكَر أنّ القاضي حميدي تعرض للخطف عقب تزويدنا بالبيانات، وتم تحريره لاحقاً لقاء فدية مالية.

في ريفي حلب الشمالي والشرقي، وهي مناطق تخضع حالياً لسيطرة قوات «درع الفرات» المدعومة تركياً، أجرى فريق التحقيق على مدار أربعة أشهر مقابلات مع أعضاء مجالس محلية وموظفين في دوائر السجلات المدنية وقضاة في المحاكم المدنية الثلاث الكبرى، الباب وجرابلس وإعزاز، إضافة إلى محكمتي مارع والراعي، وجمع الوثائق المتعلقة بدعاوى تثبيت النسب، كما عمل الفريق على مسح الحالات المتواجدة في المخيمات. ومن خلال مراجعة الأسماء واستبعاد المتكرر منها، وصلنا إلى وجود حوالي ألف طفل غير مثبت النسب في هذه المناطق. وكان رقم الألف طفل هو نفسه تقريباً في ريف حلب الغربي، الذي كان خاضعاً لفصائل معارضة (الزنكي وأحرار الشام) قبل أن تسيطر عليه هيئة تحرير الشام بداية العام 2019.

بيد أن صعوبة الحصر كانت تتركز في مناطق الرقة ودير الزور شرقي البلاد، المقرات الرئيسة والأهم لتنظيم داعش، حيث كان العدد الأكبر من المقاتلين الأجانب، قبل أن تنجح قوات التحالف الدولي وقوات سورية الديمقراطية في القضاء على نفوذهم.

ونتيجة عدم إمكانية دخول هذه المناطق، وتعذُّر الحصول على موافقات من قوات سوريا الديمقراطية، قرر فريق التحقيق الوصول إلى مخيمات نازحي الرقة ودير الزور المتواجدة في محافظة إدلب.

أكثر من أربعة آلاف

في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي، حصلنا على الموافقات اللازمة من وزارة العدل (تابعة لـ «حكومة الإنقاذ») والنائب العام محمد قباقبجي. تواصلنا مع إدارة المخيمات في سرمدا بريف إدلب الشمالي، لإجراء زيارات ميدانية للمخيمات ولقاء سيّدات معظمهنّ من الرقة ودير الزور.

و«حكومة الإنقاذ» هذه كانت قد تأسّست بداية شهر تشرين الثاني 2017، وهي تعمل في مناطق نفوذ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) في معظم مناطق إدلب وريف حماة وريف حلب الغربي، وتشير الوقائع إلى أنها الواجهة المدنية للهيئة، رغم أنها تنفي رسمياً تبعيتها لأيّ فصيل عسكري.

في طور وصول فريق التحقيق إلى مركز إدارة المخيمات بغرض الدخول إلى مخيّمٍ في قرية خربة الجوز بريف إدلب، اعترضت مجموعة من المسلحين التابعين لـ هيئة تحرير الشام أحد أعضاء الفريق وساقته للاعتقال. بقي قيد الاحتجاز لمدة أربعة أسابيع خضع خلالها للتحقيق بتهمة التجسس، وصودر جهازه المحمول وكاميرته، قبل أن يطلق سراحه بوساطات أهليّة.

علمنا لاحقاً من مصادر داخل المخيم المرادُ زيارته، أنه يضم ما يزيد عن 350 حالة زواج من مجهولي النسب.

قادتنا رحلة التوثيق في أكثر من منطقة تتزاحم فيها الفصائل العسكرية على السلطة، إلى إحصاء ما يزيد عن أربعة آلاف طفل مجهول النسب في شمالي البلاد. في حين يقول كمال عاكف، المتحدث باسم مكتب العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية، إن ما يزيد عن 4000 امرأة و8000 طفل من عائلات الجهاديين الأجانب متواجدون في ثلاثة مخيمات شمال شرقي البلاد في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، يقيمون في أقسام مخصصة ويخضعون لرقابة أمنية مشددة.

يعلّق أسعد المحمود على الأرقام أعلاه بالقول إن «أعداد الأطفال مجهولي النسب تزيد عن ذلك إذا ما أضفنا إليها أوضاعاً استثنائية أخرى، كالنساء المتزوجات من سوريين مجهولي الهوية أو مكتومي القيد، والنساء الأرامل اللواتي يخشين رفع دعاوى إثبات الزواج، لارتباط أزواجهنّ السوريين بتنظيم الدولة الإسلامية في المناطق المحررة، أو بالفصائل الإسلامية في مناطق النظام».

عزباء بنظر القانون

من أصل خمس وعشرين سيدة تزوجنَ من «مهاجرين» في العام 2014، عادت سبع نساء إلى بلدة بشقاتين في ريف حلب الغربي. إحداهن كانت «أمينة» (30 عاماً)، زوجة أبي عمر المصري المقاتل في «كتائب عصبة الأنصار» قبل انضمامه إلى داعش وانتقالها معه إلى مدينة الرقة.

في أواخر العام 2017 وقفت «أمينة» أمام قاضٍ من محكمة القاسمية (15 كم غربي حلب) للاعتراف بها زوجة. كان بيدها ورقة مهترئة لم يُثبّت فيها اسمٌ صريحٌ لزوجها أو للشهود؛ «كل ما لدي هو هذه… القاضي لم يعترف بها» تقول، ثمّ تُعيد طيّ العقد بحرصٍ في كيسٍ من النايلون.

آنذاك كانت المحكمة تتبع حركة نور الدين الزنكي، لكن تبدّل الظروف الميدانية وسيطرة هيئة تحرير الشام على القرية، جعل «أمينة» على حد قولها، تفقد أي أمل.

الحال يبدو أكثر تعقيدا مع «ثريا» من قرية عنجارة بريف حلب الغربي (33 عاماً)، فهي أمّ لأربعة أطفالٍ من زيجاتها الثلاث. بعد أن قُتل زوجها الأول في مدينة الرقة 2014، وهو ابن عمّ لها منتمٍ لتنظيم داعش، عقدت قرانها على مقاتلٍ ليبي أنجبت منه ولداً، ليُقتل هو الآخر، ويزوّجها التنظيم من أميرٍ قالت إنه كان في السابق ضابطاً روسياً، أنجبت منه طفلتها الأخيرة التي لا يزيد عمرها اليوم عن سنتين.

ابنا «ثريا» من زوجها السوري، علي (9 سنوات) ومحمد (7 سنوات)، خارج المدرسة الآن. ولعلّ مصيراً مماثلاً ينتظر ولدها الثالث عُمر (4 سنوات). لكن هذا لا يساوي شيئاً عندها، بالمقارنة مع قلقها على طفلتها الصغرى، وقد كرّرت أكثر من مرة أثناء مقابلتها: «أنا عزباء بنظر القانون، لا أعرف اسم زوجي ولم أكن أتحدث لغته… من سيتزوج ابنتي عندما تكبر؟».

وبالرغم من اتّباعها جميع الإجراءات المطلوبة في محكمة القاسمية، إلا أن أولاد «ثريا» بقيوا من دون نسب. «كل مرة أراجع فيها المنظمات الإغاثية يطلبون مني دفتر عائلة أو بيان قيد عائلي، والسجل المدني لم يعطني أي ورقة تثبت زواجي».

تشير البيانات التي حصلنا عليها من محكمة القاسمية إلى وجود 260 دعوى تثبيت زواج مرفوعة في هذه المحكمة وحدها/ كما أحصينا في مدينة الباب شرقي حلب 90 دعوى إثبات نسب، 16 منها من أزواج عرب وأوروبيين فيما رفضت محكمة إدلب تزويدنا بالأرقام عن عدد الدعاوى المرفوعة لديها.

أما في محكمة جرابلس، فهناك ما يزيد عن 100 دعوى مرفوعة لم تحسم حتى الآن، بحسب محمد أيمن رئيس ديوان المحكمة، مؤكداً أن الخوف من المساءلة يمنع مئات النساء من رفع الدعاوى. «المخيمات مليئة بمثل هذه الحالات» على حد قوله.

ثلاثة قوانين

تعتمد المحاكم في المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة على ثلاثة مصادر للتشريع بحسب الجهة المسيطرة، إذ تستند محاكم منطقة «درع الفرات» على القانون السوري مع بعض التعديلات، ويعتمد ريف حلب الغربي (وقت إجراء التحقيق) وبعض مناطق إدلب غير الخاضعة لهيئة تحرير الشام على القانون العربي الموحد، فيما تلجأ الهيئة وفصائل إسلامية أخرى في مناطق نفوذها في إدلب إلى التحكيم بالشريعة الإسلامية.

زكريا أمينو، محامٍ يعمل في محاكم إدلب وريف حلب الغربي، يقول إن «جميع هذه المحاكم حتى هذه اللحظة لا تعترف بالزواج من أشخاص مجهولي الهوية، ولا تقرّ بتثبيت نسب الأطفال». الكلام نفسه أكّده المحامي عبد العزيز الدرويش، وكيل عدد من القضايا المرفوعة في ريف حلب الغربي: «لا تحصل المرأة على نتيجة، حتى ولو قامت برفع دعوى».

أسامة الخضر، مدير الشعبة الثانية للسجل المدني في ريف حلب الغربي، أبدى أسفه لحال مئات النساء اللواتي يراجعن مكتبه للحصول على أوراق رسمية تمكنهنّ من تثبيت الملكيات أو الحصول على المساعدات. يقول «إنها مسألة شائكة لا يمكن حلّها».

أما في أرياف حلب الشرقية والشمالية الخاضعة لفصائل «درع الفرات» المدعومة من تركيّا، فقد اتفقت المحاكم هناك على عدم قبول أي دعوى قضائية لتثبيت النسب إن لم تتوفر كامل الأوراق الثبوتية الخاصة بالزوج. وهو ما أشار إليه محمد أديب كرشو، القاضي الشرعي في محكمتي إعزاز ومارع، وكذلك محمد هدال، القاضي في محكمة صوران الذي قال: «لا يحق للمرأة أن ترفع الدعوى باللقب… ولا يسمح القانون بذلك».

محمد قباقبجي، النائب العام في وزارة العدل التابعة لـ «حكومة الإنقاذ» في مدينة إدلب، كان من القلائل الذين يعتقدون بصحة عقود الزواج تلك. قبل أيام من اغتياله بعبوة ناسفة في 22 آذار/ مارس الماضي صرّح لنا قائلاً: «طالما أن الزوج معلوم من قبل أشخاص، ومعلومُ الصفة والمكان، فليس اشتراطاً معرفة اسمه الصريح»، وعلى حد قوله، فإن وزير العدل في هذه الحكومة إبراهيم شاشو يشاركه في الرأي. ورغم أن كلاهما في موقع المسؤولية، إلّا أن وزارة العدل في «حكومة الإنقاذ» لم تتخذ أيّ إجراءٍ لحسم القضايا المرفوعة.

الباحث الإسلامي محمد الأحمد من مدينة إدلب، قال إن اتفاقاً شفوياً جرى عقده بين وجهاء المدينة و«وزارة العدل» لإثبات الزواج والنسب من مجهولي الهوية، بعد أن ترفع الزوجة دعوى قضائية تُرفقها بشهادة تعريف باسم المهاجر يسجل عليها ما هو معروف به من اسم أو لقب، بوجود شاهدين ومختومة من قبل الفصيل المنتمي إليه. وأضاف: «لقد تم الاتفاق على فتح خانة جديدة في السجل المدني خاصة بالمهاجرين، فيُنسب الطفل لوالده، فإن لم يعرف اسمه فينسب إلى بلده كابن المصري أو العراقي». لكن هذا الاتفاق لم يجد طريقه إلى التنفيذ بحسب عمر عبد القادر، قاضي الأحوال الشخصية في المدينة الذي قال: «لا نستقبل الدعوى التي لا يكون فيها أسماء صريحة».

باطل، مكروه، جائز

يخلو حديث معظم القضاة والموظفين والمحامين الذين قابلناهم من التعاطف مع زوجات المقاتلين الأجانب وأطفالهنّ. وليس من النادر أن تختلط لديهم الآراء الفقهية المستندة إلى فتاوى شيوخ الدين، بتلك المستقاة من القانون المدني.

حتى نقيب محامي إدلب، عبد الوهاب الضعيف، كان يرفض تنسيب الأطفال مجهولي الأب، ويؤكد على أن هذا الزواج «خطيئةٌ كبيرة وجريمةٌ اجتماعية يتحمّلها الآباء الذين قبلوا بتزويج بناتهنّ بهذه الطريقة». وأضاف: «لا يثبت نسب طفل لأبيه قبل تثبيت الزواج»، متابعاً أن هذا الزواج «غير جائز لأنه زواج بجهالة، والجهالة بأحد الزوجين في العقد (أمر) محرم» معتمداً -حسب قوله- على فتوى صادرة من «المجلس الإسلامي السوري».

بعد أن تتبعنا الفتوى، وجدنا أن المجلس الإسلامي السوري (مقرّه اسطنبول) قال «بجواز هذا العقد مع الإثم»، لما فيه من «مفاسد وأضرار بحق الزوجة سواء على الصعيد الاجتماعي أو المدني»، والطفل الناتج عن الزواج بحسب الفتوى «طفل شرعي». وفي نص الفتوى «إذا جمع مجهول النسب إلى ذلك انتساباً إلى جماعات الغلوّ، فيكون أولى بالتحريم والمنع».

معظم من التقيناهم إذن، أجمعوا على بطلان الزواج من مجهول الاسم، سواء في مناطق سيطرة جبهة النصرة، أو مناطق «درع الفرات» ومنهم محمد هدال، القاضي الشرعي في محكمة صوران الذي قال «لا يوجد شرعية للعقد باللقب»، بينما قليلون منهم اعتبره «زواجاً مكروهاً». أما في القانون المدني فهو «زواجٌ باطلٌ قطعاً»، بحسب القاضي محمد نور حميدي الذي قال «إن معرفة الاسم الحقيقي والصريح شرط من شروط صحة العقد».

صلاة ثمّ انتحار

في مخيّم في قرية دير سرحان في ريف حلب الغربي، تعيش سيدة خمسينية مع حفيدتها ذات الثلاث سنوات في خيمة تتألّف من مفردات بسيطة؛ غاز للطبخ، وفراشان يتمددان على حصيرة من البلاستيك وبضعُ وسائد.

في حزيران/ يونيو 2018 أفاقت «أمّ حميدة» لتجد ابنتها (21 عاماً) جثة هامدة في ثوب الصّلاة. كان إلى جوارها مصحفٌ، وثلاثُ علب دواء فارغة تستخدم في معالجة الضغط والسكري. «كان وجهها مبتلّاً بالدموع… حتى بعد موتها» تتذكر السيدة وهي تضم حفيدتها إلى صدرها.

بحسب «أم حميدة»، أقدمت ابنتها على الانتحار بعد مضايقات كثيرة طاولتها من أقربائها. «كانوا يصفون ابنتي بزوجة الداعشي، وأحياناً بالزانية».

تضيف الوالدة أن «حميدة كانت مؤمنة بالله»، لكن سوء الظروف الاقتصادية وتلك المضايقات دفعتها إلى إنهاء حياتها. «وجدتُ في الخيمة سفرة عشاء، وفنجان قهوة… لقد أكلت وشربت قبل أن تموت… قرأت القرآن وصلّت، ثمّ تجرّعت الدواء»، تروي قصتها.

حالات مشابهة لزوجات مقاتلين أجانب أقدمنَ على الانتحار تعرفنا إليها، وأخرى سمعنا بها في غير منطقة، معظمهنّ استخدمن جرعات زائدة من الأدوية، أو «حبة الغاز» الشهيرة في المنطقة، التي يمكن الحصول عليها من دكاكين «السّمانة» وتُستخدم لتعقيم المحاصيل الزراعية وطرد القوارض والحشرات.

حلول سريعة

وثَّقَ فريق «منسقو الاستجابة في الشمال السوري» وجود 36356 امرأة أرملة في إدلب وحماة، و189924 طفلاً يتيماً في نهاية العام 2018، كما بينت إحصائيات مركز «يبو» للأبحاث أن 13 مليون سوري نزحوا منذ عام 2011 وحتى آب/أغسطس 2018، منهم 6.3 مليون نازح داخلي. وتلجأ معظم العائلات المعوزة في الشمال للبحث عن المساعدات على أبواب الجمعيات الإنسانية، وهو أمر غير متاح لعوائل الأطفال مجهولي النسب.

بعد هربها وعودتها إلى مدينة الباب في عام 2016، تعيش «أم طه» مع طفليها من دون أي وثيقة رسمية في مخيمٍ على الشريط الحدودي مع تركيا، محرومة من المساعدات الإغاثية ومن فرصة تعليم أولادها. تنظر إلى طفلها الأكبر الذي بات بعمر الدراسة وتتحسر على مستقبله. «إدارة المخيم ترفض إعطاء الولدين كفالة الأيتام والمعونة، ولا يمكن لولدي طه أن يدخل المدرسة».

تزوجت «أم طه» في عمر الثلاثين من قاضٍ مصري في محكمة داعش في مدينة الباب. كانت قد لجأت إليه في العام 2013 لرفع دعوى بحق إخوتها الذين عاملوها «كخادمة» بحسب قولها، وكانوا يوجهون لها الإهانات ويضربونها. زيارات متكررة قام بها القاضي بحجة الاطمئنان على حياتها ومعاملة إخوتها لها، انتهت بالزواج من الرجل الذي عقد عليها في المحكمة بلقبه.

لا تجيز القوانين التي تخضع لها المؤسسات الإنسانية تقديم المعونة لمجهولي النسب ممن لا يملكون أوراقاً رسمية، بحسب أحمد.م (اسم مستعار) مسؤول في واحدة من المنظمات الإنسانية في مدينة الباب: «التعليمات الصارمة تمنعنا من ذلك، ولكننا نتجاوز في كثير من الأحيان، بدافع إنساني. ما ذنب أولئك الأطفال؟» يقول.

قصة مشابهة أيضاً لدى سارة صلاح. هي أم لثلاثة أطفال يكبرون أمام أعينها دون أن يمتلكوا أي وثيقة رسمية. كانت قد تزوجت من مقاتل تونسي بطلب من أخويها المنضمين إلى التنظيم. الأخوَان قُتلا في معركة منبج، بينما أسرت قوات سوريا الديمقراطية أخاها الثالث. تقول: «حاولت الحصول على ورقة من السجل المدني، أو رفع دعوى لتثبيت زواجي لإلحاق أولادي بالمدرسة، لكن دون جدوى».

معظمُ الأطفال مجهولي النسب بأعمار دون الست سنوات، لا تخولهم حالياً الدخول إلى المدرسة، إلّا أن «القضية تحتاج إلى حلول سريعة»، يؤكد فيصل درويش مدير تربية حلب، موضحاً أن «المديرية تحاول تقديم كافة التسهيلات لإلحاق الأطفال بالمدارس».

من جهة أخرى، يقول أنس (اسم مستعار) المسؤول في أحد المجمعات التربوية، «يتم تسجيل هؤلاء الأطفال مستمعين في المدرسة. هذا الأمر لا يشكل مشكلة الآن، ولكننا سنقع فيها لاحقاً، خاصة عندما نصل إلى مرحلة استصدار الشهادة، فكيف سنقدم شهادة إنهاء مرحلة لطالب دون معرفة نسبه أو كنيته، ولم يستكمل أوراقه الثبوتية، وفي الأصل ليس لديه جنسية». ويكمل أن «هناك آثاراً نفسية تلحق بالتلاميذ عند كل سؤال عن آبائهم، أو جرّاء تهكّم أترابهم عليهم في الصفوف… معظمهم يعاني من الانطواء أو يتصرف على نحو عدائيّ».

التزوير هو الحلّ

أخيراً، حصلت «أم عبد الله» من سكان حلب على «دفتر عائلة» قامت بتزويره في بلدة الدانا بريف إدلب. تقول إنها حاولت بشتى الطرق الحصول على أوراق رسمية، ودفعت للمحامي ما يقارب 300 دولار دون جدوى، فلجأت إلى «الطريقة الأسرع والأقل كلفة» لحلّ مشكلة نسب أطفالها.

«أم عبد الله» أم لطفل وطفلة من أب تونسي الجنسية، وعلى حد قولها فإنها حاولت الانتحار مراراً عند وجودها مع زوجها في الرقة. كان قد أسكنها في قبو في المدينة، وكان يقفل عليها الأبواب، وبالرغم من هروبها الذي كلفها ثلاثة آلاف دولار أمريكي، دفعتها على حد قولها لعناصر من قوات سوريا الديمقراطية تجنباً لاعتقالها وأطفالها، ووصولها إلى ريف حلب الغربي، إلّا أنها لم تستطع تثبيت زواجها. «زوجي كان يحتفظ بأوراقه في حزام يدخله معه حتى إلى الحمام» تقول.

بعشرة آلاف ليرة سورية، أي ما يقارب عشرين دولاراً أمريكياً، حلّت أم عبد الله المسألة وزوّرت «دفتر عائلة» صادر عن حكومة الأسد، سجلته في أمانة السجلّ المدنيّ باسم رجل وهميّ، وهي الآن تستطيع الحصول على المعونة في كافة الدوائر.

تتبّعنا قضية تزوير الأوراق الثبوتية التي انتشرت بكثرة في عموم البلاد، من شهادات جامعية وجوازات سفر ودفاتر عائلية وإخراجات قيد، بل وحتى شهادات وفاة، ووجدنا سماسرة يعملون باستخراج هذه الأوراق علناً في مناطق المعارضة أو تلك التي يسيطر عليها النظام السوري، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي.

تواصلنا مع أحد السماسرة لتثبيت زواج ونسب طفلين ادعينا صلة قربى بهما، فكانت الكلفة ما يقارب 200 ألف ليرة (400 دولار) عن كل طفل، للحصول على بيان عائلي موثّق من دائرة السجل المدني في مناطق حكومة الأسد خلال أسبوع واحد فقط، فيما تنخفض الأسعار في مناطق المعارضة حتى تتراوح بين 10 إلى 20 ألف ليرة (20-40 دولار)، وتنخفض أكثر من ذلك إذا كان البيان العائلي غير مرفق بأختام «أصلية».

غياث العلي من ريف حلب، كان أحد ضحايا هذا التزوير. عند استصداره بيان قيدٍ عائلي وجد نفسه زوجاً من امرأة ثانية، وأباً لأطفال لا يعرفهم ولم يسمع بهم من قبل. فوجئ بوجود رقمه الوطني على هذه الأوراق، مستغرباً من كيفية الحصول عليه، وهو يسعى الآن لرفع دعوى قضائية بحق السيدة التي تزوجته ولم يسمع سابقاً باسمها. يضحك غياث وهو يخبرنا عن شعوره عند اكتشافه الأمر، «للّحظة الأولى شعرت بالخوف، خاصة إن علمت زوجتي بالأمر. خفت من عدم تصديقها لي، وما يسببه هذا الأمر من مشكلات لعائلتي، إلّا أني ضحكت بعد ذلك، وأنا أسأل نفسي لماذا تم اختياري أنا، خاصة وأني لم أعرف اسماً مشابهاً لزوجتي المفترضة طوال حياتي».

يعلّق موظّف في السجل المدني في ريف حلب الغربي على هذا بالقول إن «مُمتهني التزوير يستخدمون سجلات مفقودة خلال المعارك من أمانات السجل المدني، أو يحصلون عليها باستخدام تطبيقات هاتفية، أو من محلات بيع وشراء الهواتف المحمولة». ويوضح أن «التزوير لا يقتصر على مناطق المعارضة، بل انتشر في مناطق حكومة الأسد بالرغم من وجود قدرة أكبر هناك على تمييز وكشف الوثائق المزورة».

الخوف من المُساءلة دفع العديد من زوجات المقاتلين «الدواعش» إلى تثبيت الزواج من أحد الأقارب من أبناء العمومة أو الخؤولة، ويقوم القضاء بإثبات الواقعة بناء على ذلك. يؤكد هذا رئيس الديوان في محكمة جرابلس محمد أيمن، قائلاً إن «نساء الدواعش ينسبن أطفالهنّ إلى أقربائهنّ بزيجات صورية خوفاً من الملاحقة». وهو ما يؤكده أيضاً القاضي في محكمة صوران محمد هدال، واصفاً هذه الزيجات «بالأمر الخطير لما فيها من ضياع الإرث والنسب».

بينما وجد بعض النساء حلاً في السّفر إلى تركيا، كما حصل مع «أم خليل»، التي استخرجت لابنتها وأحفادها هوية مؤقتة (كيمليك) صادرة عن الحكومة التركية، ناسبةً الأطفال لأب وهميّ. «كانت الإجراءات سهلة. كل ما احتجته كان دفتر عائلة مزور دفعت ثمنه ما يقارب ثلاثين دولاراً، قدمته لدائرة الهجرة مع عنوان المنزل ورقم الهاتف. لم يتم التدقيق بالأمر، وحصلت على البطاقة والرقم العائلي»، تقول أم خليل.

«سلالة الإرهابيين»

ضمن جلسته التي خُصصت لمناقشة القانون الجديد لمجهولي النسب، والذي تضمن 57 مادة تم التوافق على 13 منها، استبدل «مجلس الشعب» التابع لنظام الأسد في حزيران/يونيو 2018 لفظ «مجهول النسب» بلفظ «اللقيط» الذي نص عليه القانون 107 الصادر عام 1970. واللقيط في التعريف القانوني «هو الوليد الذي يُعثر عليه ولم يُعرف والداه».

ووافق المجلس على المادة 20 من مشروع القانون، التي تقول «يعد مجهول النسب عربياً سورياً، ما لم يثبت خلاف ذلك»، والمادة 21 والتي تقول «يُعدّ مجهول النسب مسلماً، ما لم يثبت خلاف ذلك». لاقى هذا القانون نقاشاً حادّاً في «مجلس الشعب»، انتقل إلى الأوساط العامة الاجتماعية والصحفية. ففي الوقت الذي اعتبر البعض أن هذه الموافقة جاءت تلبية لحاجة إنسانية ملحة، إذ لا ذنب لهؤلاء الأطفال في تحمل وزر آبائهم، رأى آخرون، منهم عضو مجلس الشعب السوري نبيل صالح والإعلامية ماغي خزام أن هذا القانون «يكرس سلالة الإرهابيين بوثائق رسمية»، ويشرّع ما أسموه «جهاد النكاح»، وهي شائعة انتشرت في سوريا على هامش الثورة السورية منذ بداية 2013، ونُسبت إلى الشيخ محمد العريفي الذي نفاها، واعتبرها البعض أكذوبة اعتمدتها قوات الأسد واستخباراته في إطار تشويه المعارضة الإسلامية المسلحة.

ونقلت صحيفة الوطن المقربة من النظام السوري عن مصادر وجود 300 طفل مجهول النسب فقط في مناطق النظام، ولا يمكن التأكد من صحة هذا الرقم.

وفي الشمال السوري ترفض المحاكم التابعة للفصائل المسلحة أن تمنح الأم السورية جنسيتها لطفلها إلا بإحدى هاتين الصفتين، «لقيط» أو «مجهول النسب»، إذ لم يحصل «أحمد» مثلاً على الجنسية السورية ولم يثبت في دوائر النفوس بالرغم من تثبيت والدته عقد الزواج في محكمة الباب بوجود وثيقة السفر التركيّة للأب. وتقول أم أحمد التي قُتل زوجها في العام 2017 في معركة مع قوات النظام، إنها لم تستطع الحصول على بيان عائلي لطفلها. تُحرّكُ يديها كدليل على عدم الفهم، متمنيّة لو أنها ادّعت الجّهل بهويّة الأب.

يعلّق علاء الدين عبدو، المحامي في ريف حلب الشمالي، على هذه الحالة قائلاً: «في حال الزواج من أجنبي وتثبيت هذا الزواج في المحكمة لا يكتسب الأطفال الجنسية السورية»، ويتابع: «يحق للقاضي منح الطفل الجنسية السورية، إن ثبتت ولادته على الأرض السورية، ويعامل معاملة اللقيط ويوضع في قيود خاصة ويمنح اسماً وكنية وقيداً خاصاً».

أما في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية شمال شرقي البلاد، فليس هذا الأمر مطروحاً النقاش، إنما يطالب المسؤولون هناك دول العالم بإعادة مئات الأطفال مجهولي النسب إلى بلدانهم الأصل.

طفلة تحمل طفلة

من المرجح أن تتعاظم مشكلة الأطفال غير المسجّلين في سوريا، فهي لا تقتصر فقط على أبناء المقاتلين الأجانب، بل إن كثيراً من الزيجات بين السوريين أنفسهم تتم منذ سنوات بعقود عرفية بعيداً عن المحاكم والسجل المدني. يقول أسامة الخضر مدير الشعبة الثانية للسجل المدني في ريف حلب الغربي: «قلّما يلجأ المواطنون إلى المحاكم، فمن أصل 800 واقعة زواج في العام 2018 في الريف الغربي لحلب هناك 150 فقط تمّت في المحكمة». ويعزو الخضر ذلك إلى الجهل، أو الخوف من المساءلة والملاحقة بالنسبة للمطلوبين.

بينما يوضح المحامي زكريا أمينو أن «هناك مشكلة قيود مدنية في المنطقة، ليس فقط بالنسبة لأبناء الأجانب، بل بالعموم. يحتاج الأمر إلى سن قوانين مناسبة تبعاً لظروف المنطقة، ولكن لم يتم حتى الآن طرح أي مبادرات».

بالمقابل، لم تدعم المجالس المحلية أو المنظمات الإنسانية في مناطق فصائل المعارضة برامج توعوية تستهدف هذه الفئة. تقول ميساء المحمود مديرة «مركز بناء الأسرة»، ورنا. م المنسقة ضمن اتحاد الجمعيات النسائية في حلب وإدلب، إن «مراكز الاتحاد لا تركز سوى على مواضيع الأعمال المهنية، وافتقرت إلى حملات توعوية أو ندوات بخصوص الزواج من مجهولي الهوية، أو قضية الأطفال مجهولي النسب».

الحملة الوحيدة التي أطلقت بهذا الخصوص كانت في بداية 2018 من قبل ناشطين في إدلب وريفي حماه الشرقي والغربي، «لاقت عداءً من فصائل عسكرية، واتهامات بالوقوف ضد زواج المهاجرين الذي قدموا لنصرة الثورة السورية» بحسب القاضي محمد نور حميدي، أحد أعضاء الحملة التي أُطلق عليها اسم «مين زوجِك»، والتي تضمنت تنظيم ندوات للتعريف بمخاطر هذا الزواج وكتابة عبارات على الجدران تطالب بتجنيس الأطفال، مثل «أريد نسباً لأطفالي» و«طفل بلا جنسية لن يكون له حقوق مدنية».

ويحذّر القاضي حميدي، من أن عدم تجنيس هؤلاء الأطفال وإدماجهم في المجتمع يساعد على تمدد التنظيمات المتطرفة وتحديداً داعش داخل المخيمات، ضارباً أمثلة عن «تغلغل الفكر المتطرف لدى عوائل المهاجرين» في مخيم الهول ومخيمات أخرى.

فيما يقول حسام رسلان، وهو باحث اجتماعي ومدرس بمعهد النور بريف حلب الشرقي إن «الوصمة الاجتماعية التي تلاحق هذه العوائل، وغياب برامج الرّعاية، تسهّل دخول الأطفال عالم الجريمة والتطرّف»، مضيفاً أن هناك مشكلة أخرى سنرى آثارها على المدى الطويل، هي مشكلة «تزوير الأنساب»، التي قد تتجاوز قدرة أي مؤسسة على حلّها.

في الوقت نفسه دعا بانوس مومسيس، منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية، الحكومات للمساعدة في حل أزمة مصير 2500 طفلاً أجنبياً محتجزين في مخيم الهول بشمال شرق سوريا، قائلاً في إفادته في جنيف يوم 18 نيسان/إبريل الماضي إنه «يجب معاملة الأطفال كضحايا في المقام الأول. أي حلول يتم التوصل إليها يجب أن تكون على أساس ما يحقق أفضل مصلحة للطفل». وأضاف أنه يجب التوصل إلى الحلول «بغض النظر عن عمر أو جنس الأطفال أو أي تصور بشأن انتماء الأسرة».

في كانون الثاني/يناير الماضي، في مخيم دير حسان في ريف حلب الغربي، كانت «هبة الله» (16 عاماً) تجلس القرفصاء، حاملةً طفلتها ذات السنتين ونصف السنة أمام تعليقات المارّة.

«طفلة تحمل طفلة» هو اللقب الذي ألصقه بها أحد مسؤولي المخيم. تفرح عند رؤيتنا من جديد بعد مرور زمنٍ طويل على لقائنا الأول. الطفلة التي بدأت تتعثر بمشيتها كانت تضج بالحياة. تحاول الابتعاد عن حضن أمها. أطلقت عليها اسماً يخالف ما عانته منذ حملها بها. نادتها بـ «فرح». كان وجهها القشيب بفعل البرد وغياب التدفئة يفرج عن ابتسامة، وكانت ترفع بيدها ورقة تثبت زواجها ونسب طفلتها. تقول إنها حصلت عليها عبر محامٍ من مناطق نظام الأسد، ومن خلالها صارت تتلقى بعض المساعدات. لا شك أنها وثائق مزورة. لكنها بدت مصدر سعادة لطفلة قادتها ظروفها إلى تحمّل الأعباء وحيدة في خيمة باردة.

المصدر: جسر. نت

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى