نحو التحول الاقتصادي في سوريا: نهج انفتاحي وهيكلة حكومية جديدة

د. عبد المنعم حلبي

ينتقل الحديث عن التعافي الاقتصادي اللازم لتحقيق الاستقرار الاجتماعي في سورية من مسألة العقوبات وتحسن المؤشرات الظرفية، إلى بحث مدى قدرة الدولة على إعادة تعريف دورها ووظائفها في المرحلة القادمة، ويتم التركيز هنا على إنجاز التحول الاقتصادي بناء على مقاربة مختلفة لإدارة الاقتصاد في المرحلة القادمة، تنطلق من إصلاح هيكلي للمؤسسات، وفصل واضح للصلاحيات والمسؤوليات، وبناء سياسات عامة قادرة على تحقيق نتائج ملموسة على صعيد حياة المواطن، لتحويل البلاد لأرض جاذبة للعيش والعمل، وتعزيز الأمن وترسيخ السلام، كشرطٍ أساسيٍ لأي انتقال اقتصادي نحو التنمية المستدامة.
إن أي حديثٍ جديٍ عن تعافٍ اقتصاديٍ أو استقرارٍ اجتماعيٍ أو انتقالٍ سياسيٍ مستدام، يفترض دولة قادرة على التخطيط، ومؤسسات اقتصادية مستقلة نسبياً، وتوزيعاً عقلانياً للصلاحيات، وأدوات رقابة فعالة. ومن هنا، فإن التحدي الحقيقي أمام الحكومة الانتقالية لا يكمن في حجم الملفات التي ورثتها وحسب، ومدى الاعتماد على الأجسام والأذرع الحكومية السابقة أو التي نشأت عنها، بل في قدرتها على كسر أنماط العمل القديمة، وإعادة تعريف دور الدولة من سلطة مركزية مهيمنة إلى إطار منظم للتنمية، وضامن للحقوق، وحَكَم بين المصالح المتعددة.
وانطلاقاً من التغيرات الجذرية المتوقعة نتيجة إنهاء عقوبات قيصر، فإن الاقتصاد السوري -موضوعياً- لا يمكن إنقاذه بالأدوات نفسها، والتي اُستخدمت لإدارته في حالة الانكماش والعقوبات القصوى، فانتقال الحكومة من إدارة الأزمة إلى إدارة التحول يفرض إعادة رسم الهيكل الاقتصادي الإداري للدولة، بدءاً من إعادة توزيع الأدوار بين الوزارات الاقتصادية والهيئات الحكومية ذات الصلة، وأولها إعادة التفكير إنهاء الحالة الاندماجية في وزارتي: الاقتصاد والصناعة، والطاقة، وفي إطار نهج جديد مرن ومنفتح بعيداً عن عقلية السيطرة والتحكم.
لقد تم منح هيئة المنافذ البرية والبحرية صلاحيات تنظيم الاستيراد والتصدير والجمارك، بانتظار ربطها بالمعايير الاقتصادية الحديثة، من حيث الأتمتة والشفافية، وكذلك المراقبة البرلمانية، لتكون رافعة حقيقية للموارد والصدقية. ولعل محاربة التهريب، وضبط الإيرادات، ستصبح أكثر فعالية عندما ترتبط بلامركزية مالية، تسمح للمحافظات الحدودية بالاستفادة من جزء من عائدات المنافذ لدعم مشاريع البنى التحتية.
وزارة الاقتصاد، بالشراكة مع هيئة التخطيط والإحصاء، يجب أن تتحول إلى مركز وطني للتخطيط الاستراتيجي، يتولى إعداد استراتيجية تنمية وطنية طويلة الأمد، ويشارك بفعالية في عملية الإصلاح التشريعي وتحفيز الاستثمار، مع تركيز واضح على القطاعات القادرة على خلق قيمة مضافة حقيقية، مثل الزراعة الحديثة، والصناعات التحويلية، والطاقة المتجددة، والخدمات التقنية.
وفي المقابل، ينبغي استعادة وزارة الصناعة مستقلة، وتمكينها من التحول من مؤسسة تنظيمية تقليدية إلى مؤسسة تطويرية فاعلة، تعيد هيكلة القطاع العام الصناعي، وتدرس سلاسل القيمة، وتضع خرائط صناعية للمحافظات وفق ميزاتها النسبية، وتفتح الباب أمام شراكات حقيقية مع القطاع الخاص، شراكة نوعية تعتمد على تعزيز الابتكار والتسويق العصري، وبما يسمح بإطلاق صناعات تحويلية تنافس الاستيراد، أو تصديرية قادرة على النفاذ إلى الأسواق الإقليمية.
وفي المقابل، ينبغي استعادة وزارة الصناعة مستقلة، وتمكينها من التحول من مؤسسة تنظيمية تقليدية إلى مؤسسة تطويرية فاعلة، تعيد هيكلة القطاع العام الصناعي، وتدرس سلاسل القيمة، وتضع خرائط صناعية للمحافظات وفق ميزاتها النسبية، وتفتح الباب أمام شراكات حقيقية مع القطاع الخاص
في الدائرة نفسها، أثبتت تجربة الأشهر الماضية التناقض الموضوعي في إدارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك ضمن وزارة الاقتصاد، في إطار تصديها للمسؤولية الكبرى المتمثلة بتحرير الاقتصاد، ولاسيما في مواجهة ضغوط المصالح الناشئة عن عملية التحول، وبالتالي، ولتحقيق التكامل في المسار الجديد، فإننا قد نحتاج إلى إنشاء هيئة وطنية مستقلة، مُدعَّمة بالمؤسسات التخصصية والتجهيزات والكوادر، ويرتبط عملها بالقضاء عبر الضابطة العدلية، وبتشاركية مع المجتمع المدني والأهلي، لمواجهة الاحتكار، وتأمين التناسب بين الجودة والتسعير، والتحقق من المواصفات القياسية، وحماية المستهلك مالياً وصحياً، وصولاً لتأمين دعم موجَّه للشرائح الأكثر فقراً وتضرراً، يعتمد على قواعد بيانات شفافة، ويعيد للحكومة مكانتها الاقتصادية والاجتماعية بين مواطنيها الأكثر احتياجاً، وربطه بمسار العدالة الانتقالية.
وفي الإطار التفاعلي نفسه، من المعروف أن الإصلاح الاقتصادي سيفقد مساره الصحيح إذا لم يرتكز إلى سياسة نقدية مستقرة ومؤسسة مصرفية مستقلة نسبياً، لذلك فإن مصرف سورية المركزي لم يعد قادراً على أداء دوره التقليدي كحارس لسعر الصرف الذي ترغب به الحكومة، عبر أدوات بدائية أثبتت فشلها، بل بات مُطالباً بالتحول إلى مؤسسة تحمي الاقتصاد من تقلبات توجهات السلطة التنفيذية، والتمتع بمرونة تفاعلية مع تطورات السوق، دون الاستسلام لجنوح محتمل في مصالح القطاع الخاص. وهنا يتوجب على مصرف سورية المركزي التحول من إدارة سياسة نقدية توفيقية إلى سياسة نقدية تستند إلى نظام تقني آمن، لمواجهة التضخم وحماية الليرة السورية، واستخدام شفاف لأدوات السياسة النقدية في دعم النمو الاقتصادي باتجاه حالة من الاستقرار والتوازن، تؤدي إلى تحسن حقيقي في الحياة اليومية للمواطنين. كما يجب أن تتركز أولويات المصرف المركزي في إعادة بناء الاحتياطي النقدي الأجنبي من خلال إدارة ذكية للموارد المتاحة، إضافة إلى تحرير جزء من النظام المصرفي المحلي، بما يسمح بإعادة الإقراض وتمويل النشاط الاقتصادي، بدل الاكتفاء بدور الحافظ للأموال، وهنا سيكون توسيع الشمول المالي، جغرافياً ورقمياً، شرطاً أساسياً لإعادة الثقة بالقطاع المصرفي، مع تأمين آلية شفافة لربط السيولة المتاحة بالاقتصاد الحقيقي، ولكن بعد القيام بفرض التعامل بالليرة السورية على كافة الأراضي السورية، كرمز سيادي وليس اختياراً نقدياً.
من جهة أخرى، لا يقل ملف المياه أهمية عن الملفات الاقتصادية والمالية، إذ لم يعد من الممكن التعامل معه كتفصيل إداري داخل وزارة الطاقة. فالمياه اليوم عنصر أمن قومي يرتبط مباشرة بإنتاج الغذاء، واستقرار الريف، والحد من النزوح الداخلي، واستمرار الجمع بين ملفي المياه والطاقة في وزارة واحدة يتجاهل الفروق الجوهرية في طبيعتهما وأولوياتهما، لذلك يصبح نقل إدارة الموارد المائية إلى جهة عامة أخرى، كوزارة الزراعة، أو إنشاء هيئة وطنية مستقلة مرتبطة بها، خطوة ضرورية لتطوير شبكات الري، والاستعداد لتحسين إدارة حوض الفرات بوصفه ملفاً استراتيجياً، وإدخال تقنيات الزراعة الذكية، والتي باتت شرطاً للتكيف مع الشح المائي وتغير المناخ. كما يجب أن يتحول تأمين مياه الشرب للمواطنين إلى هدف وطني عاجل لا يقبل التأجيل أو التسويف.
ولتأمين علاقة سليمة ومؤسساتية بين الحكومة والقطاع الخاص، لابد من السماح لرجال الأعمال بتشكيل غرف التجارة والصناعة ومجالس الأعمال الخارجية بطريقة حرة وشفافة، وانتخاب ممثليهم بدون أي تدخل حكومي. إضافة إلى ترخيص مؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالشأن الاقتصادي وحياة الناس، وغير مرتبطة بالحكومة، وتفعيل دورها في إطار مسؤولية مجتمعية تشاركية مع الجهات الرسمية، مع تطبيق مقاربة إعلامية غير نمطية، تسمح بتشكل مساحة أكثر اتساعاً وحريةً لمناقشة ومتابعة المشكلات والقضايا الناشئة عن عملية التحول.
وهكذا فإن المعالجة السابقة تُفضي إلى نتيجة أساسية مفادها أن جوهر التحول الاقتصادي المنشود لا يكمن في توسيع الصلاحيات أو دمج المؤسسات، بل في إعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والاقتصاد على أسس وظيفية واضحة. ففعالية التخطيط، وجدوى تحرير السوق، وحماية المستهلك، واستقرار السياسة النقدية، وإدارة الموارد السيادية، تتطلب هيكلية حكومية تفصل بين الأدوار، وتحد من تضارب المصالح، ونهجاً يُعزز المساءلة والشفافية، بما يسمح لكل وزارة وهيئة أن تؤدي وظيفتها بكفاءة ضمن إطار وطني منسق، ينعكس بصورة مباشرة ولا لبس فيها على تحسين واقع حياة السوريين، مع احترام توازن المصالح مع القطاع الخاص، وفعالية حقيقية للمجتمع المدني.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى