بين السيادة والدعم الدولي.. هل تنجو سوريا؟

حمدان العكله

تمرُّ سوريا اليوم بمنعطف تاريخي يتجاوز في دلالاته حدودها الجغرافية والسياسية، حيث يراقب العالم ولادة إدارة سورية جديدة تحمل على عاتقها مهمة شبه مستحيلة، تتمثَّل في ترميم ما دمَّرته سنوات الحرب، وإعادة لُحمة المجتمع الذي أصابته انقسامات عميقة، وبناء مؤسسات دولة أنهكها الصراع والانقسام على المستويات السياسية والاقتصادية والإدارية.
غير أنَّ نجاح هذه التجربة لا يتوقَّف على كفاءة الأداء الداخلي وحده، مهما بلغت درجة الإرادة الوطنية أو صدقية الخطاب السياسي المعلن. إذ يرتبط هذا النجاح ارتباطاً عضوياً بـالإرادة الدولية، ففي عالم تحكمه المصالح المتشابكة وتوازنات القوة المتبدِّلة، لا يمكن لأيِّ انتقال سياسي أن يصمد أو ينجح دون حدٍّ أدنى من الاعتراف الدولي، والدعم الاقتصادي الحقيقي، والغطاء السياسي الذي يؤمِّن له عبوراً آمناً نحو الاستقرار، ويمنحه القدرة على الاستمرار في بيئة دولية شديدة التقلُّب، تتغيَّر فيها التحالفات، وتتمُّ إعادة صياغة الأولويات باستمرار.
أولاً- محرِّكات الإرادة الدولية
ينطلق اهتمام المجتمع الدولي بسوريا الجديدة من حسابات واقعية بحتة، لا من منطلقات أخلاقية أو إنسانية مجرَّدة، فاستقرار سوريا بات ضرورة ملحَّة للأمن الإقليمي والدولي على حدٍّ سواء، إذ إنَّ استمرار هشاشتها السياسية والأمنية يفتح الباب مجدَّداً أمام عودة التنظيمات العابرة للحدود، التي تجعل الشرق الأوسط وأطرافه الأوروبية في حالة استنفار دائم، سواء على المستوى الأمني أو الاستخباراتي أو حتى التشريعي، مع ما يرافق ذلك من كلفة مالية وسياسية متزايدة. ويتقاطع هذا البعد الأمني بصورة مباشرة مع ملف اللجوء الذي تحوَّل، مع مرور الوقت، من أزمة إنسانية طارئة إلى عبء سياسي واقتصادي مزمن على الدول المستضيفة، وأصبح عاملاً مؤثِّراً في سياساتها الداخلية وخطاباتها الانتخابية، ما جعل البحث عن بيئة سورية آمنة تسمح بعودة طوعية وكريمة لملايين اللاجئين خياراً استراتيجياً لا يمكن تجاهله أو تأجيله. وإلى جانب ذلك، يدرك الفاعلون الدوليون أنَّ إخراج سوريا من موقع “ساحة الصراع بالوكالة” وتحويلها إلى دولة مستقرة وفاعلة من شأنه أن يخفِّف من حدِّة الاستقطاب الجيوسياسي، ويعيد رسم توازنات إقليمية أكثر هدوءاً، ممَّا يقلِّل من كلفة الصراعات المفتوحة ويعزِّز منطق الاستقرار طويل الأمد على مستوى المنطقة بأسرها.
تشترط الجهات المانحة مستويات عالية من الشفافية والحكم الرشيد وربط الدعم بإصلاحات مؤسسية واضحة وقابلة للقياس، بينما تسعى الدولة السورية إلى حماية سيادتها ومنع تحوُّل المساعدات إلى أدوات ضغط سياسي أو وصاية غير مباشرة تمسُّ القرار الوطني.
ثانياً- تحدِّيات التقاطع الدولي
رغم هذا الإدراك العام لأهمية الاستقرار، تواجه الإدارة السورية الجديدة تحدِّياً بالغ التعقيد يتمثَّل في التوفيق بين أجندات دولية متناقضة ومصالح متشابكة يصعب جمعها في مسار واحد أو رؤية متجانسة. فصراع النفوذ ما يزال حاضراً بقوة في المشهد السوري، الأمر الذي يفرض على دمشق تبنِّي سياسة متوازنة تقوم على النأي بالنفس، وتجنُّب الانخراط في محاور إقليمية أو دولية متصارعة، مع السعي في الوقت ذاته إلى إعادة تعريف موقع سوريا بوصفها مساحة للتلاقي الاقتصادي والتعاون الإقليمي، بعيداً عن التجاذب السياسي والصدام غير المباشر. وفي موازاة ذلك، تبرز معادلة الإعمار والإصلاح بوصفها اختباراً حسَّاساً للقدرة على إدارة العلاقة مع الخارج، إذ تشترط الجهات المانحة مستويات عالية من الشفافية والحكم الرشيد وربط الدعم بإصلاحات مؤسسية واضحة وقابلة للقياس، بينما تسعى الدولة السورية إلى حماية سيادتها ومنع تحوُّل المساعدات إلى أدوات ضغط سياسي أو وصاية غير مباشرة تمسُّ القرار الوطني. أمَّا الملف العسكري، فيظلُّ من أعقد الملفات وأكثرها حساسية، إذ يتطلَّب الوصول إلى تفاهمات دولية دقيقة ومتدرِّجة تضمن انسحاباً منظَّماً للقوى الأجنبية، ممَّا يعزِّز سيادة الدولة ويحول دون نشوء فراغ أمني قد يعيد إنتاج الفوضى بأشكال جديدة وأكثر تعقيداً.
الإدارة السورية الجديدة لا تتحمَّل مهمة إعادة ترتيب السلطة فحسب، إنَّما تجسِّد عهداً جديداً بين وطن يرفض الفناء، وعالمٍ أدرك – ولو متأخِّراً – أنَّ استقرار المنطقة يبدأ من استقرار دمشق.
ثالثاً- استراتيجيات كسب الثقة الدولية
أمام هذا المشهد المعقَّد، لا يكفي التعويل على النوايا الدولية وحدها أو الرهان على تبدُّل المزاج السياسي العالمي، بل يتطلَّب الأمر استراتيجية سورية واضحة ومتماسكة لكسب الثقة وتحويل الدعم المشروط إلى شراكة مستدامة طويلة الأمد. ويبدأ ذلك بتبنِّي دبلوماسية قائمة على الكفاءة، تعتمد على نخب تكنوقراطية محترفة قادرة على مخاطبة العالم بلغة المصالح والقانون الدولي، وتقديم صورة دولة مسؤولة وقابلة للشراكة، وقادرة على الوفاء بالتزاماتها، بعيداً عن الخطاب الإنشائي أو الوعود غير القابلة للتنفيذ. كما تمثِّل الشفافية المالية ركيزة أساسية في هذا المسار، من خلال إنشاء أطر مؤسسية وصناديق سيادية لإعادة الإعمار تخضع لرقابة وطنية ودولية، تضمن نزاهة التدفقات المالية وتحدُّ من الهدر والفساد، وتعزِّز الثقة المتبادلة بين الدولة السورية وشركائها الدوليين. غير أنَّ العامل الأهم يظلُّ في تقوية الجبهة الداخلية عبر مصالحة وطنية حقيقية وشاملة، إذ إنَّ تماسك المجتمع والدولة يمنح الإدارة الجديدة قدرة تفاوضية أعلى، ويحول دون استثمار الانقسامات الداخلية في إضعاف القرار الوطني أو فرض إملاءات خارجية تتناقض مع المصلحة العامة.
ختاماً، الإدارة السورية الجديدة لا تتحمَّل مهمة إعادة ترتيب السلطة فحسب، إنَّما تجسِّد عهداً جديداً بين وطن يرفض الفناء، وعالمٍ أدرك – ولو متأخِّراً – أنَّ استقرار المنطقة يبدأ من استقرار دمشق. إنَّ نجاح هذه الإدارة هو ثمرة العناق المنتظر بين إرادة دولية استعادت شيئاً من بوصلتها الأخلاقية، وإرادة وطنية صقلتها سنوات النار فخرجت أكثر صلابة ووعياً. إنَّها لحظة تاريخية ينبغي بناؤها على تطلعات مستقبلٍ يتوق فيه السوريون إلى السلام والعدالة والكرامة، حيث تثبت سوريا للعالم أنَّ أصعب الأزمات يمكن أن تلد حلولاً عظيمة عندما تتلاقى الإرادات الصادقة وتتَّحد الأهداف النبيلة.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى