
لم يعد المشهد اليمني اليوم مجرّد أزمة سياسية أو صراع مسلّح، بل صيّرته بعض مراكز النفوذ الإقليمي والظروف المعقّدة أزمةً خطيرةً تمسّ المعنى الوطني ذاته، وتضع أمام اليمنيين سؤالاً كبيراً: هل ما يزال لدينا إطار جامع نحتكم إليه ونبني عليه مستقبل الدولة؟ يتجلّى هذا التآكل في المعنى اليوم في صورته الأكثر وضوحاً في المحافظات الجنوبية والشرقية، وتحديداً في حضرموت التي تشهد تجاذباً للمشاريع تحت لافتات مختلفة، لكن جوهرها واحد: هو محاولة احتكار الموارد والقرار بعيداً من الإطار الوطني الجامع. هذه المستجدّات ما هي إلّا ثمرة طبيعية لفشل النخبة في تحقيق أهم أهداف ثورتَي سبتمبر/ أيلول 1962 وأكتوبر/ تشرين الأول 1963، وفي الحفاظ على الدولة الوطنية، ومخرجات ثورة فبراير/ شباط (2011)، وثوابت الحركة الوطنية اليمنية السبعة: “الجمهورية والوحدة والديمقراطية والعدالة والمواطنة المتساوية والحكم الرشيد والتنمية” المستمدّة من التجارب الإنسانية وتاريخنا الحضاري ومقاصد الشريعة الغراء.
بدأ التأزم مبكّراً بظهور ثقافة الإقصاء لدى بعض تيارات الحركة الوطنية
من المهم الإشارة إلى أن هذا التأزم بدأ منذ وقت مبكّر في أثناء مراحل الكفاح ضدّ الإمامة والاستعمار، بظهور ثقافة الإقصاء لدى بعض تيارات الحركة الوطنية، ووأد محاولة الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الشعبية في جمهوريتَي الشمال والجنوب، وصراع الستينيّات والسبعينيّات بين التيارَين اليساري والإصلاحي، وتحفّظ كلا التيّارَين على بعض قيم التحديث الضرورية لبناء الدولة الوطنية؛ فاليسار لم يتصالح مع ثقافة الديمقراطية والتعدّدية والشراكة، والإصلاحيون كان لديهم تحفّظاتهم على بعض قيم التحديث، لكن الثقافة الوطنية الجامعة التي راكمتها الحركة الوطنية اليمنية استطاعت التغلّب على كثيرٍ من عوامل الصراع، وتقريب الأطراف المختلفة من ثقافة الديمقراطية والحداثة السياسية والاجتماعية، ولو في الحدود الدنيا. وساهم ذلك في التمهيد لإعادة توحيد الدولة الوطنية اليمنية على قاعدة الديمقراطية والتعدّدية، وبعد استفتاء شعبي على دستور الوحدة اليمنية.
جاءت وحدة 22 مايو/ أيار (1990) لتحمل وعد التغيير الديمقراطي وبناء دولة الحكم الرشيد، ولكن هذا المُنجَز واجه تحدّيات موروث الصراع وثقافة الإقصاء والاستحواذ، وكانت المحطّة الفارقة في استعصاء هضم نتائج انتخابات 1993 وهضم قواعد تحديث النظام السياسي، فعاد التأزّم بقوة حتى وصلنا إلى كارثة حرب 1994. ومن الواضح أن هذه الحرب أفقدت الوحدة روح الشراكة وساهمت في تآكل شرعيتها الأخلاقية، وولَّدت احتقاناً غذّى النزعة الانفصالية. ومع تبلور مشروع التوريث العائلي بعد انتخابات 1997، وتفريغ الجمهورية من جوهرها الديمقراطي، وتهديد الشرعية الشعبية، تهيّأت البيئة لظهور مشروع الاحتكار السلالي الإمامي للسلطة والنظرية العنصرية الكهنوتية، كما تهيّأت لظهور الحراك الانفصالي الذي استجمع مشاعر الإقصاء والتهميش.
ورغم محاولة الشعب اليمني تصحيح المسار في ثورة فبراير (2011) التي أسقطت النظام العائلي، وأسندت السلطة إلى رئيس من أبناء الجنوب، وفتحت آفاق الحوار لبناء صيغة سياسية ليمن اتّحادي جديد، مجدّدةً الشرعية الأخلاقية للوحدة، إلّا أن الثورة المضادّة جمعت نظام عائلة صالح مع المشروع السلالي الإمامي الحوثي في انقلاب 2014، ووضع اليمن أمام واقع معقّد نجني ثمرته اليوم في ظهور المشاريع الانفصالية المتعدّدة. والكارثة الأكبر هي فشل الكتلة الوطنية التي قادت ثورة فبراير في الحفاظ على تماسكها، وتحوّل بعض أطرافها إلى جماعات وظيفية بيد مشاريع النفوذ الإقليمي، وبدأ الخطاب الإعلامي والسياسي للأحزاب السياسية يحاول إحياء صراعات الستينيّات والسبعينيّات لتبرير خذلان المشروع الوطني.
في خضم هذا التفكّك، تطرح المشاريع المناطقية والانفصالية شعارات حقّ تقرير المصير، لكنّ هذا الحقّ في الفقه الدولي والأخلاقي والديني لا يعني إطلاقاً حقّ النزعات الاستئثارية الأنانية في احتكار موارد الخير العام بنية إلحاق الضرر بالمجموع العام. والغريب أن بعض أنصار هذه المشاريع ممَّن قضوا أعمارهم في الدعوة إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والأممية الإنسانية التي ترفض احتكار الأقلية للثروة، وبعض أنصار هذه المشاريع ينتمون إلى تيارات دينية، ويقرأون ليلاً ونهاراً الآيات القرآنية التي تنهى عن احتكار الثروة لفئة قليلة بقصد الإضرار بالأغلبية، كقوله تعالى: “كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ”. والمشروع الانفصالي الذي وُلِد من رحم رفض التهميش والإقصاء تحوّل إلى مشروع إقصائي جديد يريد احتكار تمثيل الجنوب واحتكار موارد المحافظات الجنوبية، واحتكار السلطة في هذه المحافظات. وهذا المشروع يتجاهل أن قدرته على بسط سيطرته العسكرية على مناطق الجنوب لا يعود إلى الدعم الإماراتي فحسب، بل الفضل الأكبر للكثير من أبناء الشمال والوحدويين الجنوبيين الذين قدّموا آلاف الشهداء في حروب لمواجهة تمدّد الانقلاب الحوثي العفاشي في مناطق الجنوب وتعز ومأرب في أعوام 2015 و2016 و2017، واستنزاف المليشيات في معارك البيضاء والجوف وصعدة وحجة، والثورات التي قُمِعت في مديريات إب والأحجور ووصاب وغيرها.
يعيد مشروع إعادة هندسة المعنى الوطني إلى الناس شيئاً فقدوه: الإطار الحامل للهُويَّة
ونشير هنا إلى أن استناد النزعة الانفصالية إلى تسويق فكرة “دولة صغيرة غنيّة مثل دول الخليج” وهو تسويق ساذج يستبعد السياقات التاريخية والاقتصادية ويتناقض مع النزعة الإنسانية والوطنية والدينية، وهو شبيه بقصّة أصحاب الجنّة في القرآن الذين احتكروا الخير حتى أصبحت جنّتهم كالصريم، أو النخلة الحمقاء في قصيدة إيليا أبو ماضي التي احتقرت الأرض التي نمت فيها، وأرادت أن تحتكر ظلّها وثمراتها، فجفّ عرقها وماتت. وتلك النزعات الإقصائية الجديدة تكرّر خطأ نظام علي عبد الله صالح الذي توهّم أن إحكام القبضة العسكرية والأمنية على كامل التراب الوطني يعطيه حقّ إقصاء جميع الشركاء والاستحواذ العائلي على السلطة، متجاهلاً أن الجمهورية قامت ضدّ نظام عائلي، وأن الوحدة تأسّست على الديمقراطية والحكم الرشيد، فتآكلت الشرعية الأخلاقية لنظام صالح.
غير أن اندلاع ثورة فبراير جدّدت الشرعية الأخلاقية للوحدة السياسية في صيغتها الجديدة التي حدّدتها مخرجات الحوار الوطني، وبدأت تتآكل في المقابل القاعدة الأخلاقية للانفصال، رغم ما يتوهّمه بعضهم اليوم من تعاظم هذه النزعة أو إحكام قبضتها العسكرية على المحافظات الجنوبية أو إحكام النظام الكهنوتي قبضته العسكرية على صنعاء ومحيطها.
في ظل هذا الانهيار الشامل، يفتقر اليمن إلى تيار وطني جامع، وهذا الفراغ الوطني يجعل تأسيس حركة وطنية ثقافية فكرية ضرورةً وجوديةً، وليس ترفاً فكرياً. هذه الحركة يجب أن تهتمّ بإعادة هندسة الدولة الوطنية على مستوى المعنى بعد أن فشلت النخبة السياسية في الحفاظ عليها على أرض الواقع: هندسة دولة الجمهورية والديمقراطية والمواطنة والحكم الرشيد، والعمل على هندسة المعنى والمبنى للثقافة الوطنية بحيث تشكل امتداداً لكفاح الوطنية اليمنية وثوابتها السبعة. وهذا المشروع سيجد جاذبيةً هائلةً، لأنه يعيد إلى الناس شيئاً فقدوه، وهو الإطار الحامل للهُويَّة.
مشروع إعادة هندسة المعنى الوطني مهم في اليمن الآن، لأنّ المبنى الوطني في الواقع يواجه تحدّيات خطيرة سمحت بصعود الهُوّيَّات الصغرى؛ مناطقية وقبلية ومذهبية، وتآكل الثقة في الدولة، وتسييس الثروة، وتراجع قيم الجمهورية والمواطنة. وأيّ مشروع وطني يعيد تعريف اليمن على أسس الوحدة والجمهورية والديمقراطية والعدالة والمواطنة والحكم الرشيد والتنمية سيكون له جاذبية كبيرة؛ لأن الجميع سئم من الدخول في حلقات مفرغة من تجارب الإقصاء والأنظمة القمعية وأنظمة التجزئة، التي تؤسّس لصراعات مستقبلية. هذا الفراغ الوطني، وتَعَبُ اليمنيين من الحروب، ورغبتهم في دولة وحقوق وعدالة وكرامة وهُويَّة وطنية غير مسلّحة… ذلك كلّه يوفّر أرضاً خصبةً لأيّ مشروع فكري وطني.
بدأت الشرعية الأخلاقية للانفصال تتآكل مقابل تجدد الشرعية الأخلاقية للوحدة بعد ثورة فبراير
يمكن لهذه الحركة أن تبني كتلة وطنية تاريخية جديدة تضمّ المثقّفين والإعلاميين والأدباء والفنّانين والنقابات والأكاديميين ورجال الأعمال المستقلّين والنخب الدينية المعتدلة لتغيير وعي المجتمع، كما أن المجتمع الدولي اليوم يميل إلى دعم المشاريع المدنية والمواطنة والحكم الرشيد، وبناء السلم المحلّي بدلاً من دعم الفصائل المسلّحة. يمكن للحركة أن تحقق استعادة المعنى الوطني وخلق سردية وطنية مضادّة للتفكيك تقول: نحن نمثّل اليمن: الدولة، المواطنة، الحقوق، والقيم الجمهورية الدستورية، وأن تؤثّر في أيّ تسوية سياسية مقبلة لضمان إعادة صياغة الدولة على أسس الجمهورية الجديدة القائمة على التنوع والحقوق والحرية والشفافية.
اليمن يحتاج اليوم إلى معنى كبير يجمع ولا يفرّق، والبداية يجب أن تكون عملية، بوضع ميثاق وطني قصير يحدّد المبادئ السبعة: الوحدة، الجمهورية، الديمقراطية، العدالة، المواطنة، الحكم الرشيد، التنمية، ثم العمل على بناء السردية الوطنية الجديدة، وخلق الخطاب الوطني البديل الذي يتجاوز خطاب الكراهية، ويهيّئ لجيل جديد يرفض التجزئة والاستحواذ.
المصدر: العربي الجديد






