معادلات أعمق في الجنوب السوري

باسل الحاج جاسم

لا يمكن النظر إلى التصعيد الإسرائيلي في الجنوب السوري تحرّكاً عابراً، أو استجابة ظرفية لمشهد أمني محلي… ما يجري اليوم جزء من معادلة أوسع تتصل مباشرة بمسار الانفتاح الأميركي على سورية، ومحاولة واشنطن إعادة صياغة مقاربتها الملف السوري بعد سنوات من الجمود.
أعاد هذا الانفتاح، بمعنييه السياسي والأمني، تحريك الساحة، وأعاد حسابات اللاعبين الإقليميين، وفي مقدمتهم إسرائيل التي اعتادت أن تكون الطرف الأكثر تأثيراً على شكل المقاربات الأميركية في الجنوب. وهي تتحرّك انطلاقاً من قاعدة ثابتة، أي تحول سياسي أو تفاهمات دولية تخص سورية يجب أن تمر عبرها، أو على الأقل ألا تتعارض مع أمنها وحدودها ووجودها في الجولان السوري المحتل.
وليست زيادة التوغلات الإسرائيلية مجرّد رسائل عسكرية، بل هي لغة سياسية ميدانية تهدف إلى إعادة رسم حدود الدور الإسرائيلي في لحظة تشعر فيها تل أبيب بأن شيئاً ما يتغير من دون مشاركتها المباشرة… ما تريده إسرائيل واضح، التأكيد أن الجنوب السوري، بكل تعقيداته الأمنية، سيظل ضمن مجال مراقبتها، وأن أي تفاهمات دولية، مهما كان شكلها أو عمقها، لا يمكن أن تتجاوز مصالحها الأمنية. والرسالة هنا ليست موجهة فقط إلى دمشق، بل إلى واشنطن أيضاً، فإسرائيل، كما أثبتت السنوات الماضية، تنظر إلى الجنوب السوري امتداداً مباشراً لأمنها القومي، وتعتبر أنها تملك حق “الفيتو” غير المعلن على أي ترتيبات تخص تلك المنطقة. ومن هنا يمكن فهم الاندفاع الإسرائيلي لفرض وقائع جديدة، ومنع تشكل توازنات قد تفرض عليها التزامات مستقبلية.
قد يتحوّل الوجود الأميركي المحدود اليوم إلى نقطة ارتكاز أمنية أكثر وضوحاً في حال ظهرت مؤشّرات لتفاهم أمني بين دمشق وتل أبيب، أو في حال توسّعت التوترات
على الجانب السياسي، تلجأ دولة الاحتلال إلى خطاب الطريق المسدود، كلما شعرت بأن هناك دينامية جديدة تتشكّل خارج إرادتها، وليس هذا الخطاب توصيفاً للواقع بقدر ما هو أداة ضغط، تستخدمه إسرائيل عندما تحتاج إلى رفع سقف التفاوض، أو عندما تلاحظ أن الطرف الآخر بدأ يكتسب دعماً دولياً، أو عندما تحتاج إلى المزيد من الوقت لترتيب أوراقها الداخلية. وهي تدرك أن أي تفاهمات حول الجنوب، ولو كانت أمنية فقط، قد تمتد آثارها عقوداً، ولذلك تحاول التحكم في إيقاع النقاش، لا في نتائجه فحسب.
أما الولايات المتحدة، فخياراتها تبدو أكثر براغماتية، لا تبحث حالياً عن اتفاق شامل، بل عن صيغة تمنع الانفجار وتضمن وجوداً منظماً في الجنوب السوري، أقصى ما يمكن أن تدفع نحوه في المرحلة الحالية تفاهمات أمنية أولية، تضع قواعد اشتباك وتقلص احتمالات الاحتكاك، من دون الدخول في الملفات الثقيلة مثل الحدود النهائية أو المياه أو مستقبل الجولان، ما تريده واشنطن إدارة التوازنات، وليس إنتاج حل نهائي.
وبين هذه المعادلات، يبدو الجنوب السوري مرشّحاً لمرحلة جديدة من إعادة تشكيل النفوذ، وهناك ثلاثة سيناريوهات واقعية يمكن النظر إليها، مثل عودة روسية جزئية، ليس بمستوى بين 2017 و2020، بل ضامناً للتهدئة، لا قوة انتشار موسّعة، روسيا المثقلة بجبهة أوكرانيا لا تملك ترف العودة الكاملة، لكنها أيضاً لا تريد ترك الجنوب مساحة خالصة لواشنطن أو تل أبيب.
السيناريو الثاني تعزيز الحضور الأميركي، وهو احتمال قوي إذا لمست واشنطن أن ترتيبات الجنوب يمكن أن تتحوّل إلى ملف استراتيجي له انعكاسات على أمن إسرائيل والأردن والعراق. وقد يتحوّل الوجود الأميركي المحدود اليوم إلى نقطة ارتكاز أمنية أكثر وضوحاً في حال ظهرت مؤشّرات لتفاهم أمني بين دمشق وتل أبيب، أو في حال توسّعت التوترات.
ليست زيادة التوغلات الإسرائيلية مجرّد رسائل عسكرية، بل هي لغة سياسية ميدانية
السيناريو الثالث، هو الأكثر واقعية، اتفاق أمني مؤقت، يحدد حدود الحركة العسكرية، وآليات المراقبة، وضمانات دولية محدودة، وهذا النوع من الاتفاقات عادة ما يستخدم بوابة إلى مراحل أكبر، لكنه لا يلامس القضايا السياسية الكبرى، بمعنى آخر، سيكون الاتفاق الأمني بداية الطريق، لا نهايته.
في الداخل الإسرائيلي، تلعب الاعتبارات السياسية دوراً مركزياً، نتنياهو، المحاصر بملفات قضائية وانقسامات سياسية واحتجاجات داخلية، ليس في موقع يسمح له بخوض مفاوضات قد تفتح عليه أبواباً إضافية من النقد، وبالنسبة له، المماطلة ليست تكتيكاً خارجياً فحسب، بل ضرورة داخلية. وكل شهر يمر من دون اتفاق جديد يعني تثبيتاً أعمق للسيطرة الإسرائيلية على الجولان، وتغييراً إضافياً في الوقائع الديمغرافية والإدارية، الوقت هنا ليس أداة تفاوض، بل جزء من الاستراتيجية.
يبقى القول إن الجنوب السوري يدخل مرحلة إعادة صياغة، تتقاطع فيها رسائل إسرائيلية حادة، واحتياجات أميركية لإدارة الاستقرار، ومحاولات سورية لفتح نوافذ سياسية جديدة، وتحرّكات روسية للعودة إلى مربّعات النفوذ القديمة، وما يجري اليوم على الأرض يشير إلى أن الطريق نحو أي اتفاق، مهما كان محدوداً، سيبدأ من الأمن قبل السياسة، ومن التهدئة قبل التسوية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى