
ما يلفت الانتباه في ظاهرة إيدي كوهين هي الخلفية العميقة التي يتحرك منها. فالرجل أكاديمي يحمل درجات جامعية عليا في العلوم السياسية وتاريخ الشرق الأوسط، وله خبرة بحثية في مراكز الدراسات الإسرائيلية، وهذا يمنحه أدوات تحليلية ومعرفية تجعله يعرف تماماً أين يضع قدمه، ومتى يرفع صوته، وكيف يختار عباراته الاستفزازية. فهو لا يتحرك بعشوائية كما يتوهم البعض، بل يستخدم كل كلمة كأداة سياسية محسوبة بدقة لخدمة أهدافه.
كوهين من أصول لبنانية، وينتمي إلى اليهود الشرقيين الذين عانوا “ومازالوا”تاريخاً طويلاً من التهميش داخل المجتمع الإسرائيلي الذي تهيمن عليه النخب الأشكنازية(بإعترافه شخصياً). هذا هو الواقع بالتفصيل لمفتاح فهم الطريقة التي يرى بها نفسه ودوره، والطريقة التي يخوض بها معاركه الإعلامية. فالرجل يحمل شعوراً راسخاً بأن الشرقيين بقوا لعقود في مرتبة اجتماعية أدنى من الأوروبيين، وأن اليهود العرب أصواتهم لا تُسمع. وهذا الوعي يغذّي موقفه العدائي تجاه حكومة نتنياهو التي يختلف معها جذريًا، ويرى فيها خصماً مباشراً لموقعه ولمصالح جماعته.
من هنا يمكن فهم سلوكه الإعلامي الذي يبدو للوهلة الأولى متناقضاً أو غير منطقي. فعندما يحرّض الدروز، أو يتظاهر بالحرص على الطائفة العلوية، أو يتواصل مع شخصيات محسوبة على “قسد”، فهو لا يفعل ذلك حباً بأحد، ولا تعاطفاً مع السوريين . إنه يدرك تماماً حساسية هذه الملفات داخل المجتمع السوري، ويعرف أن أي كلمة منه يمكن أن تولّد خصومة أو شرخاً أو رد فعل غاضب. ولذلك يوظّف هذه الحساسية كأداة لصناعة توتر عربي واسع، ينعكس بدوره على الداخل الإسرائيلي، فيزيد من الضغط على الحكومة التي يناصبها العداء. حتى عباراته المسرحية — من قبيل “سماء دمشق ستضاء” أو قسمه برب موسى — كلها أدوات دعائية يحرك بها مشاعر الجماهير، وهو يعرف جيداً أثرها النفسي والسياسي.
خطورة كوهين أنه يتحرك في مساحة رمادية: لا يحمل منصباً رسمياً يجعله صانع قرار، لكنه يمتلك القدرة على التأثير في الوعي العام وإشعال السجالات. هو ليس مجرد معلّق عادي، بل لاعب إعلامي يستثمر معرفته الأكاديمية وخبرته بالبيئة العربية، ويستخدمهما لصنع حالة صدام دائم بين الشعوب العربية وإسرائيل، ليس بدافع “الكراهية” أو “العداء” فحسب ، بل بدافع إرباك حكومته وإظهارها عاجزة وعنيفة ومتهورة ، وهذا ما ينجح فيه .
حتى مؤتمر الأقليات الذي دعى له شخصياً منذ فترة قصيرة في تل أبيب وتبناه وقام بعقده بجهد شخصي صرف كما صرح حينها .
لكن الأخطر من ذلك أن كوهين يبني حضوره على تفكيك المجتمعات العربية من الداخل. فهو يختار بعناية الطوائف الأكثر حساسية، ويضرب في نقاط التوتر، ويقدّم نفسه أحياناً كحامٍ لطائفة، وأحياناً كشاهد على مظلومية أخرى، وأحياناً كصوت يدعو إلى الانتقام. وفي كل هذه الحالات، يكون الهدف واحداً: خلق شرخ عربي–عربي لا يستفيد منه إلا العدو.
وهنا تكمن النتيجة الحقيقية التي يجب التوقف عندها: إن كوهين لا يسعى فقط لإحراج حكومته، بل يقدّم نفسه — بوعي كامل — كأداة لزرع الفتن بين العرب، وخاصة بين السوريين الذين أنهكتهم الحروب والانقسامات. وهو يدرك أن المجتمع السوري المتعب، المتشظّي تحت وطأة الحرب، أرض سهلة لزرع الشكوك وتأجيج الحساسية الطائفية والفتنة بين السوريين. ولذلك يتحرك بثقة، مستغلاً وجع الناس، ومستثمراً الانقسام، محاولاً دفع السوريين إلى صراعات جانبية تخدم مشروع الفوضى.
إن قراءة شخصية كوهين بانه المثير للجدل أو صاحب تصريحات ساخرة تبسيط لشخصيته. الرجل يستخدم الأكاديمية والدعاية والاستفزاز كحزمة واحدة، ويعرف تماماً كيف يحوّل كلمة إلى شرارة. ولأجل ذلك أطالب بوعي أعمق عند متابعة خطابه، لأن الفتنة التي يبثّها لا تستهدف حكومة نتنياهو وحدها، بل تستهدف العرب أنفسهم — وخصوصاً السوريين — الذين يدفعون الثمن باهظاً عن كل كلمة يطلقها بحثاً عن مكسب شخصي أو معركة داخلية، هذه هي خطورته الحقيقية التي لايفهمها الكثيرون من العرب .






