
منذ تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية قبل أكثر من ثلاثة عقود، تعاملت إسرائيل معها بوصفها كياناً وظيفياً يوفّر لها مستوىً من الاستقرار الأمني، ويشكّل طبقةً وسيطةً تفصل بين الجيش الإسرائيلي والمجتمع الفلسطيني، وتخفّف عنها أعباء الحكم المباشر لملايين الفلسطينيين. غير أن هذا التصوّر الذي حكم الموقف الإسرائيلي عقوداً لم يمنع من بروز سؤال جوهري: متى تنتهي حاجة إسرائيل لهذه السلطة؟
كان هذا السؤال يُطرح سابقاً على المستوى النظري، لكنّه تحوّل في العامَين الماضيين قضيةً مركزيةً في الإعلام العبري ومراكز الأبحاث والدوائر السياسية والأمنية، ولم يعد مقصوراً على المعسكر اليميني المناهض لعملية أوسلو (1993)، بل امتدّ إلى مؤسّسات الدولة التي طالما نظرت إلى السلطة بمنظار المصالح الإسرائيلية. وقد أدّت التحوّلات التي شهدتها المنطقة منذ حرب غزّة، والعمليات العسكرية الواسعة في الضفة الغربية، والإجراءات الاقتصادية والسياسية المتشدّدة التي اتخذتها إسرائيل، إلى إعادة الحكومة والمؤسّسات الأمنية هناك النظر في معادلة الاعتماد على السلطة التي حكمت العلاقة معها منذ نشأتها. وباتت مسألة استمرار السلطة موضع نقاش موسّع، بل تحوّلت إلى إجراءات عملية تطبقها الحكومة تشمل ضمّ مناطق جديدة من أراضي الضفة، وتوسيع المستوطنات.
وإذا كانت السلطة قد نشأت في الأصل لحاجة أمنية لإسرائيل، فإن هذا يجعل التحدّي الأمني هو الأكثر تعقيداً إذا ما انهارت. وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى صعوبات ضخمة قد تواجهها إسرائيل تشمل: التعامل مع 45 ألف عنصر أمن فلسطيني، وحماية المستوطنات المنتشرة في أراضي الضفة والمحاور المرورية، وتأمين الحدود الأردنية واحتمال انعكاس انهيار السلطة، إن حدث، على استقرار الأردن، وصعود أوسع لحركات المقاومة، فضلاً عن غياب “حائط الصدّ” الذي يمنع انفجار الشارع الفلسطيني، كما يقول الباحث في معهد دراسات الأمن القومي يوحنان تسوريف. ولهذا ترى شخصيات عسكرية عدّة أن سلطة ضعيفة أفضل من غيابها التام، إذ سيجبر انهيارها الجيش على العودة إلى حكم مباشر باهظ الأثمان.
يرى تيار يميني في إسرائيل أن الوقت حان لتجاوز “أوسلو”، وانتهاز ضعف السلطة فرصةً لإعادة هيكلة الحكم في الضفة
في المقابل، يعتقد تيار يميني متنامٍ أن بقاء السلطة يُبقي الباب مفتوحاً أمام أي مسار سياسي لا يرغب فيه هذا التيار، ولذلك يرى أن إضعافها أو تفكيكها تدريجياً خطوة ضرورية لترسيخ الضمِّ وفرض السيادة على الضفة الغربية. وقد انعكس موقف هذا التيار، نتيجة تصدّر قادته القرار السياسي، في جملة من الإجراءات العقابية في العامَين الماضيين، وهو ما اعتُبر جزءاً من سياسة تقليص تدريجي لنفوذ السلطة، أو ما يمكن تسميتها استراتيجية “الإضعاف المُدار” يُبقى فيها على سلطة هشّة لا تملك شرعية شعبية داخلية، لكنّها، في الوقت نفسه، تواصل التنسيق الأمني الذي تحتاجه إسرائيل.
لكن هذا النهج يطرح سؤالاً محورياً عن احتمالية مواصلة إسرائيل هذا المسار من دون دفع أثمان أمنية خطيرة. في هذا السياق، كان معهد دراسات الأمن القومي قد نشر تقريراً نهاية العام الماضي (2024)، حذّر من أن اتساع المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة، وخصوصاً في شمال الضفة الغربية، يؤدّي إلى تراجع تنسيقها الأمني مع إسرائيل، وتآكل قدرتها على القيام بواجباتها الأمنية. كذلك أظهر التقرير أن وضع السلطة كان مهزوزاً قبل الحرب، وتفاقم بعدها، وأصبحت سلطة فاشلة فاقدة للسيطرة على أراضيها، وعاجزة عن توفير الخدمات نتيجة الفساد المستشري فيها، وتدنّي الأداء المؤسّسي، وانعدام الشرعية في ظلّ تأييد غالبية الفلسطينيين حلّها، ومطالبة 89% منهم الرئيس محمود عبّاس بالاستقالة. ومع ذلك، يبقى وجودها، ولو جزئيّاً، أفضل لإسرائيل من انهيار شامل ينتج فراغاً أمنياً وإدارياً، ويفرض على إسرائيل إعادة نشر عشرات آلاف من الجنود وإدارة حياة حوالى ثلاثة ملايين فلسطيني مباشرةً.
اللافت في النقاش أن الحديث لم يعد محصوراً في بقاء السلطة أو زوالها، بل امتدّ إلى شكل “البديل”. إذ طرح الإسرائيليون بدائل عدّة: أحدها خيار “الحكم المحلّي الموسّع”، عبر دعم مجالس محلّية فلسطينية قوية ذات طابع قبلي، بدلاً من سلطة مركزية واحدة، مثلما كان يروّج أستاذ الدراسات العربية في جامعة بار إيلان، مردخاي كيدار. وفي هذا السياق، يمكن فهم ما حاول وجهاء في عائلة الجعبري الفلسطينية من ترويجه، حين قدّموا مبادرةً تطالب بتشكيل ما سُمّيت “إمارة الخليل”.
ثمّة طرح آخر يقترح شطر الضفة الغربية إلى منطقتَيْن، وفق ما أشارت إليه الصحافية في “هآرتس” هاجر شيزاف. وهناك طرح ثالث ينطلق من إنشاء “إدارة مدنية إسرائيلية موسّعة” تشرف على الجوانب الأمنية والمدنية في مناطق واسعة من الضفة، بما فيها مراقبة عمليات البناء وإدارة الأراضي، مع منح هيئات فلسطينية صلاحيات هامشية. وتعيد هذه البدائل كلّها إنتاج نموذج ما قبل 1994، لكن في سياق أكثر تفجراً واهتمام دولي غير مسبوق بالقضية الفلسطينية.
من زاوية أخرى، ثمّة إدراك إسرائيلي متزايد بأن الاقتصاد الفلسطيني، المرتبط عضوياً بالاقتصاد الإسرائيلي، هو أيضاً أحد العوامل المؤثّرة في الإبقاء على السلطة أو إسقاطها، وأن استمرار خنق الاقتصاد الفلسطيني من خلال القيود والحواجز وحرمان السلطة الأموال سيولّد انفجاراً قد ينعكس على الأمن الإسرائيلي. وبحسب التقديرات المنشورة، تستفيد إسرائيل من وجود سلطة تدير الاقتصاد وتحمل مسؤولية دفع الرواتب، لأن البديل سيكون إدارة إسرائيلية مباشرة لمجموعة هائلة من الالتزامات التي لا ترغب الحكومة ولا المجتمع الإسرائيلي في تحملها.
يتقاطع هذا الإدراك الأمني – الاقتصادي مع الجانب السياسي الدولي، والشعور بأن غياب السلطة بشكل كامل سيضع إسرائيل أمام مسؤولية قانونية مباشرة أمام الهيئات الدولية، ويفاقم من الضغوط عليها في وقتٍ هي أحوج ما تكون فيه إلى تقليلها. وبذلك، يصبح الإبقاء على السلطة (حتى بشكل بروتوكولي) وسيلةً لتخفيف العبء القانوني والسياسي عن إسرائيل، وليس مجرّد حاجة أمنية أو اقتصادية.
ومع ذلك، ثمّة تيار يميني واسع يرى هذه الذرائع كلّها مبالغاً فيها، وأن الوقت قد حان لتجاوز إرث “أوسلو” نهائياً. هذا التيار، الذي يعبّر عنه وزيرا التيار الديني القومي، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بل ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نفسه في أحيان كثيرة، علاوة على طيف واسع من كتّاب الصحافة اليمينية، ودراسات تنشرها بعض المراكز، كالدراسة التي نشرها مركز القدس للشؤون الخارجية والأمنية في مارس/ آذار الماضي، ورأت أن السلطة لم تعد شريكاً، وأن الوقت حان لإعلان فشل مسار “أوسلو” رسمياً، واعتبار ضعف السلطة فرصةً مواتيةً لإعادة هيكلة الحكم في الضفة الغربية، بما يتناسب مع المصالح القومية الإسرائيلية بعيدة المدى. وفي هذا السياق، ظهرت دعوات خلال العامين الماضيين إلى إعلان فشل تجربة السلطة، والانتقال إلى نموذج جديد يُعطي الأولوية للمجتمعات الاستيطانية وترسيخ السيادة على أكبر مساحة ممكنة من الضفة.
وفي المقابل، ثمّة تيار عملي يقيّم الفوائد الأمنية والاقتصادية لبقاء السلطة، ويعتبر طرح التخلّص منها أشبه بالأمنيات أكثر منه سياسة قابلة للتنفيذ. وحسب دراسةٍ كتبها الباحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، وضابط الاستخبارات السابق، رام كوهين، يمثّل انهيار السلطة مشكلةً كبيرةً لإسرائيل، لأنه سيحمّلها عبئاً ثقيلاً لإدارة حياة نحو 2.7 مليون فلسطيني يعيشون في الضفة، بتكلفة اقتصادية تبلغ نحو 57 مليار شيكل سنوياً، أي نحو 5% من الناتج المحلّي الإجمالي الإسرائيلي، إضافة إلى التأثيرات الأمنية والسياسية. ومن ثمّ يدعو هذا التيار إلى ضرورة أن تُظهِر الحكومة الإسرائيلية المسؤولية طويلة المدى، وأن تمنع انهيار السلطة، وأن تضبط السياسات العقابية التي تنفّذها ضدّها، حتى لا يقود ذلك إلى انهيارها وجرّ مشكلات أمنية واقتصادية وسياسية على إسرائيل. وهكذا تبدو فكرة “التخلّي الفوري” عن السلطة هروباً من الواقع، وعودة إلى احتلال مباشر قد يخلق تحدّيات ضخمة تفوق ما واجهته إسرائيل قبل إنشاء السلطة.
يقود رصد المزاج الإسرائيلي إلى أن إسرائيل قد تكون راغبة سياسياً في تجاوز السلطة، لكنّها غير قادرة عملياً على ذلك في المدى المنظور
وفي المحصلة، تكشف المراجعة العامة أن السؤال الحقيقي لا يتعلّق بـ”متى” تنتهي حاجة إسرائيل للسلطة الفلسطينية، بل بـ”هل تستطيع” إسرائيل الاستغناء عنها أصلاً. فبينما يدفع اليمين نحو تقليص دورها، وربّما استبدالها بنماذج محلية أو إدارة إسرائيلية مباشرة، تفضّل المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية الإبقاء عليها في وضعها الحالي: سلطة ضعيفة، منقسمة، فاقدة للشرعية الشعبية، لكنّها مستمرّة في أداء الوظائف التي يحتاجها النظام الإسرائيلي.
يقود رصد المزاج الإسرائيلي، كما يظهر في الإعلام العبري، إلى حقيقة أساسية مفادها بأن إسرائيل قد تكون راغبة سياسياً في تجاوز السلطة، لكنّها غير قادرة عملياً على ذلك في المدى المنظور. ومع أن خطوات الحكومة الحالية تسير في اتجاه تقليص نفوذها تدريجياً، إلا أن البدائل المطروحة، حكماً محلّياً أو إدارة إسرائيلية مباشرة، تحمل مخاطر أمنية وسياسية واقتصادية تجعل خيار الإبقاء على “السلطة الضعيفة” هو السيناريو الأكثر واقعية بالنسبة إلى إسرائيل، وتجعل سيناريو ما بعد السلطة مؤجّلاً إلى حين.
المصدر: العربي الجديد





