
قبل كل شيء أود أن أقول إن من لا يعتقد بوجود التآمر في السياسة يشبه من يعتقد أن النصر في الحرب يأتي دون تخطيط وإعداد، نظرية المؤامرة التي يكثر الحديث عنها باعتبارها جزءا من العقلية العربية التقليدية ليست نفيا لوجود التآمر لكنها الاعتقاد بأن التآمر يتم كما لو أن أحدا يرسم على صفحة بيضاء، فالتآمر ينجح من خلال الثغرات والأخطاء والأمراض الموجودة لدى المجتمع والسلطات السياسية . إذن تضخيم دور المؤامرة بجعلها تنفذ كما يلعب فريق في ملعب مفتوح بمفرده هو الجزء اللاعقلاني في التفكير السياسي العربي .
أعود لموضوعنا الذي بدأت فيه في المنشور السابق , وفي الحقيقة فقد تقصدت إفراد الجزء الأكثر خطورة ووضع تصور لما يظهر كرأس جبل الجليد وذلك لأجل تحريض القارىء على التفكير فيه مليا كاحتمال وليس كأمر واقع , أو قدر مكتوب .
وهنا أرغب في التعرض لعوامل القوة المتوفرة لدى العهد الجديد التي يمكن الاستناد إليها في إحباط مثل سيناريو مؤامرة الانفصال وإسقاط الدولة السورية. ثم لعوامل ضعف الحركات الانفصالية خاصة في الساحل . وسأعود لاحقا للحديث عن مايمكن فعله لتعزيز عوامل قوة الدولة السورية واحتواء الثغرات ونقاط الضعف.
تأتي في مقدمة تلك العوامل وجود كتلة شعبية كبيرة متماسكة تدعم العهد الجديد بقوة , بالتالي ينبغي تعزيز وحدتها والوقوف بوجه أي عمل يمكن أن يؤدي لزرع الانقسام داخلها .
وهناك الانجازات السياسية الخارجية التي نجحت في نسج شبكة علاقات ايجابية داعمة مع الدول العربية والاقليمية , وبدلت موقف الغرب من العداء إلى مايقال : ” دعونا نمنح سورية فرصة ” ممايشير إلى وضع ايجابي لكن ليس منتهيا وليس ثابتا بالضرورة .
نعم هناك ميل دولي واضح لاعتبار استقرار سورية أحد مفاتيح استقرار المنطقة , لكن استقرار سورية مرهون أيضا بالأوضاع الداخلية , وللأسف فذلك مالم يتم وعيه جيدا من قبل السلطة السياسية حتى الآن .
على أية حال فقد آن الأوان لفتح ملف الداخل والتركيز عليه بعد الانجازات التي تحققت في ملف العلاقات الخارجية .
بكلمة واحدة فالانجازات السياسية الخارجية تمنح السلطة قدرا من القوة في مواجهة الحركات الانفصالية في الداخل لكن لايمكن الاستناد إليها واعتبارها بطاقة كريديت مفتوحة للسلطة السياسية كما أظن أن السلطة السياسية قد توهمت.
أما الحركات الانفصالية , فرغم دعوات توحيدها ورغم ادعاءاتها وضجيجها لكن الواقع يشير لغير ذلك , فالظروف الموضوعية لكل واحدة منها مختلفة تماما عن الأخرى , فقسد وربما تكون هي العقبة الأكبر تواجه إضافة للدولة السورية تركيا التي لايمكن أن تتساهل مع آلاف المقاتلين والقيادات لدى حزب العمال الكردستاني التركي الذين لجؤوا مع أسلحتهم للجزيرة التي تسيطر عليها قسد , فهم لم يلجؤوا إلى مظلوم عبدي سوى لأنهم لايوافقون على رمي السلاح سواء طلب منهم اوجلان ذلك أم لا , وبالنسبة لهم فالأراضي التي تحتلها قسد هي القلعة الأخيرة التي يمكن التحصن بها ريثما تأتي الفرصة لمعاودة العمل العسكري في تركيا انطلاقا من تلك القلعة وذلك واضح ولايحتاج لكثير من التفكير .ولاشك أن الاتراك واعون تماما لتلك الحقيقة .
بالتالي فتركيا لن تترك خلف حدودها جيبا لحزب العمال ليعاود العمل العسكري بعد سنة أو سننتين أو خمس سنوات .
والولايات المتحدة الغارقة في تحدياتها العالمية بحاجة ماسة للدولة التركية القوية ولايمكن أن تبيع علاقاتها معها بحفنة من القسديين فضلا عن ضرورات تدعيم الدولة السورية على الأقل ضمن عنوان ” إعطاء سورية فرصة ” .
أخيرا تأتي الانقسامات داخل قسد التي تفصح عنها جيدا تناقضات تصريحاتهم وكذلك انشقاقات العشائر العربية عن قوات قسد وزيادة الغضب والتذمر لدى السكان دير الزور والرقة وحتى في الحسكة من إدارة قسد لتكمل في رسم واقع سيء لقسد وربما يزداد سوءا كل يوم .
أما الحركة الانفصالية في السويداء فمقتلها في مبالغتها بالابتعاد عن تاريخ السويداء وهويتها العربية السورية , وفي وضع البيض بسلة الكيان الأزرق وحكومته المعزولة والمكروهة في العالم كله بما في ذلك داخل الولايات المتحدة , والتي من المحتمل أن تسقط مع انتخابات آخر السنة القادمة .
لقد وضع تيار الهجري السويداء في موقف صعب لايمكن احتماله لفترة طويلة , وبالفعل فقد بدأت أصوات المعارضة تتصاعد بعد أن لعبت مجازر السويداء المؤلمة دورا كبيرا في إسكاتها . وبلاشك فإن وضع السويداء المعزول جغرافيا وعدم وجود أي مقومات اقتصادية لايساعد في تدعيم أي دعوة انفصالية . فهي كما قسد تنتظر انهيارا للوضع العام في سورية كمخرج لوضع تيار الهجري , لكن مثل ذلك الانهيار مازال يبدو بعيد المنال .
أما وضع الحركة الانفصالية في الساحل فهو أصعب من وضع قسد والسويداء , صحيح أن فئة من الناس هناك خائفة وتشعر بأن المستقبل قد أغلق بوجهها , وشبح ثأر مكون الأكثرية السنية مما فعله النظام البائد من مذابح وأعمال شنيعة غير مسبوقة يلاحقها , وربما يبدو خيار الانفصال مخرجا وخلاصا بالنسبة للبعض على الأقل لكن ذلك الخيار غير واقعي بالمرة , فالعلويون في الساحل يكادون أن يكونوا أقلية بعد توزعهم خلال ستين عاما على حمص ودمشق ومدن أخرى بعيدة عن الساحل . واسمحوا لي هنا أن أستطرد قليلا .
سألني مرة صديقي المرحوم بسام يونس ابن الطائفة العلوية والمعارض لحكم الأسدين : هل تعرف أكبر تجمع مدني علوي في سورية ؟ قلت بسرعة اللاذقية قال لا , بل في دمشق .
وهذا يعني أن نسبة تتراوح بين 30-40% من العلويين تعيش خارج الساحل منذ زمن طويل .
يحيل ذلك ليس فقط للتفكير في أن العلويين في الساحل ربما كانوا هم الأقلية ولكن أيضا كون أي دعوى انفصالية ستمس مصلحتهم وحياتهم في الصميم .
ودعك من أن المكونات الأخرى في الساحل لايمكن أن تقبل لا بالفدرالية ولا بالتقسيم والانفصال . وكذلك معظم السوريين , بالتالي فغرق الساحل في حرب أهلية هو أقرب من فكرة الفدرالية لاسمح الله وهو أمر يفتح الباب أمام أكبر المخاطر بالنسبة للجميع خاصة للمكون العلوي .
ثم إن الفدرالية التي يقصد بها الاستقلال التام عن دمشق أي الانفصال أو التمهيد للانفصال تحمل معها عودة ضباط النظام السابق وحاشيته الغنية للهيمنة على تلك الدويلة ,وهذا لايمكن أن يكون مصدر ارتياح وقبول للدول الاقليمية وأوربة والولايات المتحدة وحتى اسرائيل لما لهم من علاقات وثيقة مع كل من ايران وروسيا وحزب الله .
هكذا نجد أن لكل حركة انفصالية وضعا في غاية السوء وانعدام الواقعية بالتفكير في الاستقلال , لذا فجميعها تتكل على أخطاء السلطة السياسية من جهة , وعلى التنسيق فيما بينها بشن حرب استنزاف ضد الدولة السورية . عسى أن يسعفها الوقت لكن الوقت لايبدو أنه لصالحها حتى الآن .
في المنشور اللاحق سأتحدث عن أخطاء السلطة وكيف يمكن معالجة الوضع الداخلي.


