غطاء قانوني لاحتلال غزّة وابتلاع إسرائيلي للضفة

لميس أندوني

لم ينته بعد كابوس حرب الإبادة، لندخل في كوابيس مختلة ولكن متصلة؛ قبول وصمت عربي على مشروع أميركي لتوفير غطاء قانوني لاحتلال قطاع غزّة، وتجاهل وسكون مطبِق في مواجهة هجمات المستوطنين الإسرائيليين على الفلسطينيين في الضفة الغربية، تمهيداً لابتلاع إسرائيل للضفة.
الاستكانة والتواطؤ، بل المشاركة في بعض الحالات، أوجه خطيرة لتجاوز الإطار القانوني في حل مسألة تتعلق باحتلال أرض وسلب شعبها حقوقه وهويته، وهذا كله يحدث تحت مسمّى “تحقيق السلام”.
ما يحدث في الضفة الغربية من توسع استيطاني، ومن هجمات المستوطنين الشرسة، هو أيضاً جزء من حرب الإبادة؛ إبادة الهوية، إلى جانب الإبادة الجسدية ضد الشعب الفلسطيني، التي هي الوجه الآخر لتدمير قطاع غزّة، وبدل أن نفهم هذه الحقيقة ونتعامل معها، ننتظر خلاصاً من واشنطن على شكل وعود وأوهام دفع ثمنها الشعب الفلسطيني، فآلة الحرب الإسرائيلية تحصد الأرواح وهجمة الجيش والمستوطنين تبتلع الأرض وتقتلع أهلها.
الصمت العربي على إطلاق إسرائيل عتاة المستوطنين لترويع الفلسطينيين بقصد التهجير والاستيلاء على بيوتهم وأراضيهم وممتلكاتهم، هو قبول عن وعي أو غير وعي، بتهجير الفلسطينيين، مُسلِّمة، أي الدول العربية، أمرهم إلى وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمنع إسرائيل من ضم الضفة، ومدافعة أو متجنبة المواجهة مع خطته لغزة بتشكيل مجلس.
ما يحدث في الضفة الغربية من توسع استيطاني، ومن هجمات المستوطنين الشرسة، هو أيضاً جزء من حرب الإبادة؛ إبادة الهوية
فهذا لا يمكن وصفه إلا بالوصاية الاستعمارية مدعوماً بقوة “من دول متعددة”، لتغيير وجه غزة وهويتها وكأنها ليست جزءاً من فلسطين.
المشكلة أن معظم الدول انساقت إلى “وعد” الرئيس الأميركي بأنه لن يسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية. فهو وعد آني لجذب الدول العربية الى الانخراط في الاتفاقيات الإبراهيمية، وتنتهي صلاحيته بعد تحقيق الهدف الأميركي. والغريب أن الجميع يعرف ذلك، فلا سر هنا، لكن تكاد صرخة الضفة وأهلها تصل المجرات قبل أن توقظ الدول العربية عليها، فالاستكانة إلى الوعد الترامبي، كالخضوع الإرادي لإبرة تخدير، فيبدو أنه لم يعد هناك أي أهمية لحرمة المقدسات، ولا اكتراث لضياع وشيك للمسجد الأقصى أو الحرم الإبراهيمي، بل سكون مريب. في الوقت نفسه، تحمّست دول عربية لتمريرالمشروع الأميركي في مجلس الأمن، متجاهلة أن هناك فرقاً بين خطة أميركية، مهما بلغت من السوء، وتحويلها إلى قرار لمجلس الأمن وفق أسس القانون الدولي أو قرارات المجلس التي تؤكد أن الاحتلال وفرض السيادة بالقوة فعل غير قانوني.
بالرغم من أن خطة ترامب واضحة في سكوتها عن وضع قطاع غزة وفقاً للقانون الدولي، بل تفرض حكم مجلس تفرضه أميركا، لحكم منطقة هي محتلة بالأصل، لكنه هنا يفرض عليها احتلالاً أميركياً يحمي عملياً وقانونياً الاحتلال الإسرائيلي إلى عام 2027، وقد يكون قابلاً للتجديد، ريثما تتم التغييرات المطلوبة لتحويل غزة إلى مكان ليس جزءاً من المجتمع الفلسطيني وإنما قطعة أرض ممسوحة غير مسموح لأغلب أهلها العودة لإعادة بناء مجتمعهم، بل اعتبارها مناطق أمنية مفصولة عن فلسطين، فيما تستمر إسرائيل في تصعيد عمليات الترهيب بالضفة.
قد لا يكون ضرورياً، لكن لمن نسي، يجب التذكير بأن الهجمة الإسرائيلية على مخيمات الضفة وقراها ومدنها سبقت عملية طوفان الأقصى، واستمرت وإن بوتائر متباينة، ولم تتوقف بغضّ النظر عن أي خطط أميركية أو اتفاقيات لوقف إطلاق النار، أو غيرها، فواشنطن ماضية في مشروعها لتمنع استعادة قطاع غزة حياته ومجتمعه، بل تمضي في فصل فعلي للقطاع عن بقية فلسطين، وإسرائيل تمضي في تنفيذ مخططاتها المعلنة لفرض سيادتها على القدس الشرقية والضفة.
خطط ورؤى تسعى لتدجين الشعب الفلسطيني وتمزيقه وتجريده من الإرادة المستقلة
يحدث هذا كله في العلن، فإسرائيل تعلن مخططاتها، ونحن نشبعها تحليلاً وتحذيراً، لكن لا حركة ولا تحرك فلسطيني ولاعربي، على الأقل تحرك ذات أهمية، رغم أن هناك أدوات تكاد تفلت من أيدينا، فتوصيات محكمة العدل الدولية وقراراتها في لاهاي فتحت باباً واسعاً للتحرك القضائي.
صحيح أن المحكمة ركزت على حرب الإبادة في غزّة، لكن إدانة إسرائيل لم تقصُر على جرائمها في غزّة، فجميع الممارسات الإسرائيلية ومخطّطاتها في الضفة خرق للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة وكل الأعراف المتفق عليها دولياً، ولا سر هنا أيضاً، لكن لم تستثمر الدول العربية هذين الزخمين القانوني والمعنوي، بل تتجنب أي خطوة “تحرج” واشنطن أو تغضبها، فتتمادى إسرائيل في كل من غزة والضفة.
يتركز النقاش في العالم العربي والمجتمع الدولي حول خطة الرئيس ترامب بتعديلاتها المستمرة، وهذا مفهوم إلى حد ما، لكن بدون وضع النقاش في سياق ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وهو الشرط الرئيس لممارسة الشعب الفلسطيني حق تقرير المصير.
نبقى أسرى خطط ورؤى تسعى لتدجين الشعب الفلسطيني وتمزيقه وتجريده من الإرادة المستقلة، فيما يمضي مخطط إسرائيلي أميركي في تمزيق الهوية الفلسطينية وتفتيتها، فكل الخطط تتعامل مع سكان على أرض فلسطين، تعتبرها إسرائيل خطراً أمنياً فيما تسعى واشنطن إلى إيجاد وابتكار ترتيبات إدارية استعمارية “لحماية أمن إسرائيل” واستغلال أراضي غزّة لأصحاب المليارات وتأمين أجواء آمنة لتجار العقارات ومنتجعات “السايو” على سواحلها وشواطئها.
من الواجب، الانخراط في حركات المقاطعة ومناهضة التطبيع، فالجميع يتحمل مسؤولية الصمت على ما حدث وما يحدث، فحركة التضامن الأممي مستمرة
لذا؛ لن تتخلى أميركا عن فرض مجلس استشاري بقيادة دونالد ترامب وأحد أكثر السياسيين استفادة وإثراءً من الحروب، أي رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير، فهو مجلس لتمكين تجار الحروب من ممارسة النهب بطريقة “مشروعة” وتحت عنوان “مجلس السلام”.
سيناريو مفضوح ومكشوف، وفوق ذلك مطلوب قوات “حفظ استقرار دولية” لتكملة إضفاء الشرعية على ما هو غير قانوني ولا شرعي. خطة تصلح لفيلم رعب عن قاع ممارسات لا أخلاقية في عالم يحكمه تجار الحروب، لكن، وهذا الأكثر رعباً وإيلاماً، جعل هذا الوصع قانونياً بموافقة دول عربية وخنوع دول أخرى.
لقد سعت الولايات المتحدة عقوداً، لكن بدون جدوى، لتجاوز قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة الخاصة بالانتهاكات الإسرائيلية والمستوطنات وجرائم الجيش والمستوطنين ضد الشعب الفلسطيني، سواء أكان ذلك من خلال قرارات جديدة تلغي القديمة أم بتمرير السياسات الأميركية مرجعاً دولياً على شكل قرارات لمجلس الأمن، لكن أن تنجح في خرق القانون الدولي وحقوق الشعب الفلسطيني على شكل قرار أممي، فهذه مصيبة وضربة قوية واستهانة بكل ضحايا حرب الإبادة في غزة، بل هي جريمة جديدة تضاف إلى الجرائم الأميركية، بمشاركة من يتواطأ معها، ولا مسمى آخر لها.
هذه ليست دعوة إلى اليأس وإنما لمواجهة ما نستقبله من صفعات جديدة من أعداء فلسطين والحرية، فلا يمكن السكوت، وعلى المثقفين عدم الصمت وإنما المشاركة بصوتهم وأقلامهم، ولا مناص، بل من الواجب، الانخراط في حركات المقاطعة ومناهضة التطبيع، فالجميع يتحمل مسؤولية الصمت على ما حدث وما يحدث، فحركة التضامن الأممي مستمرّة، والحد الأدنى لتحرّك دولنا تأييد المقاطعة ورفض التطبيع.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى