من الهيمنة إلى التوازن: هل انتهى “كوندومينيوم” واشنطن – تل أبيب في الشرق الأوسط؟

سمير صالحة

مقالات

يُعرَّف “الكوندومينيوم” في القانون الدولي بأنه إقليم تُمارَس عليه السيادة المشتركة بين دولتين أو أكثر بموجب اتفاق رسمي. لا يوجد أي إقليم في الشرق الأوسط يخضع حاليًا لمثل هذا النظام بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وبالتالي فإن استخدام المصطلح هنا يأتي بمعناه الاستعاري السياسي لتوصيف نفوذ مشترك غير رسمي في إدارة ملفات الإقليم.
ترسّخ هذا المصطلح في التحليلات السياسية خلال العقدين الأخيرين كإطار لفهم النفوذ الأميركي–الإسرائيلي المشترك على العديد من الملفات الحساسة في المنطقة.
ورغم أنه ليس نفوذًا قانونيًا، فقد شكّل منظومة مؤثرة تمكّنت إسرائيل من خلالها من تعزيز حضورها السياسي والعسكري، مستفيدة من الدعم الأميركي والفراغات الإقليمية التي أنتجتها الانقسامات العربية والإسلامية، والأخطاء الاستراتيجية التي منحتها فرصًا غير مسبوقة للتمدّد كقوة محورية.
كما أسهمت السياسات الإسرائيلية العدوانية على غزة واستفزازاتها الإقليمية في إحداث بلبلة بين دول المنطقة. واختارت إيران نهجًا تصعيديًا حمّل لبنان وسوريا أعباء مكلفة، ما ترك المجال مفتوحًا أمام توسّع النفوذ الإسرائيلي وتباين مواقف القوى الإقليمية تجاه هذا الثنائي.
السؤال يبقى: هل يسمح لها ترمب، وحلف شمال الأطلسي، والمجموعة الأوروبية بتأجيج سباق التسلح ورفع التوتر في منطقتي شرق المتوسط وإيجه عبر اتفاقيات تسليح متطورة مع نيقوسيا وأثينا بذريعة محاصرة تركيا، شريك الغرب الذي تردد أميركا أنه حاضر على كل طاولاتها الاستراتيجية في الإقليم؟
يشهد الشرق الأوسط اليوم تحوّلًا واضحًا في موازين القوى بعد مرحلة طويلة هيمنت فيها واشنطن وتل أبيب على ملفات المنطقة. فقد بدأ “الكوندومينيوم” السياسي الأميركي–الإسرائيلي يتفكك تدريجيًا بفعل مراجعة واشنطن لخططها الإقليمية ومتطلبات حماية مصالحها، بالتوازي مع تقارب الدول العربية والإسلامية الفاعلة، بما فيها تركيا ومصر والسعودية وقطر والإمارات وباكستان، ضمن مسعى مشترك لإعادة تنظيم المشهد ومواجهة التحديات المتزايدة.
لعب التحوّل الأميركي بدوره دورًا حاسمًا؛ فالحوارات الجديدة مع إدارة ترمب سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا دفعت واشنطن نحو براغماتية أكثر واقعية، حيث لم تعد تتحرك لإرضاء إسرائيل كما في السابق، بل وفق حسابات مصالحها الاستراتيجية. هذا التراجع في التنسيق الأميركي–الإسرائيلي خلق فراغًا أعاد تدوير التوازنات وتبديل المعادلات في المنطقة.
بالتوازي، بدأت الدول العربية والإسلامية الفاعلة تتحرك بشكل مستقل أو منسّق لإعادة رسم أولوياتها وملء الفراغ الذي استفاد منه بعضهم لعقود، وإعادة تشكيل العلاقات الإقليمية بما يعكس توازنًا جديدًا بين مصالح القوى الكبرى والمصالح الإقليمية المتشابكة.
قررت إسرائيل، في هذا السياق، البحث عن بدائل إقليمية استراتيجية بعد خيبة أملها في مشروع منصة غاز شرق المتوسط، الذي تراجع مع عودة علاقات العديد من دوله مع تركيا إلى مستويات أفضل. وتواجه تل أبيب مشكلة ثانية تمثّلت في تبدّل الموقف الأميركي، الذي بدأ يصغي إلى رسائل دول المنطقة ويتعامل بواقعية جديدة مع متطلبات مصالحه. دفع هذا الأمر إسرائيل لتحريك أوراق خط إقليمي جديد يجمع اليونان والقبارصة اليونانيين والهند في إطار عسكري–أمني مشترك. لكن السؤال يبقى: هل يسمح لها ترمب، وحلف شمال الأطلسي، والمجموعة الأوروبية بتأجيج سباق التسلح ورفع التوتر في منطقتي شرق المتوسط وإيجه عبر اتفاقيات تسليح متطورة مع نيقوسيا وأثينا بذريعة محاصرة تركيا، شريك الغرب الذي تردد أميركا أنه حاضر على كل طاولاتها الاستراتيجية في الإقليم؟
إن وجود وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في القصر الرئاسي في العلمين ولقاؤه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ثم ردّ الزيارة من قبل وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي واستقباله من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إضافة إلى حضور فيدان في طاولة الحوار الأميركي–السوري في واشنطن، ثم الحراك الرباعي التركي–السعودي–المصري–القطري في الملف الفلسطيني.
لم تعد مرحلة السيطرة الثنائية على الشرق الأوسط قائمة، والتحولات الحالية تفتح المجال لمعادلات جديدة تقوم على التنسيق بين الدول الفاعلة في المنطقة، على نحو يعزز استقلالية القرار الإقليمي ويحد من الهيمنة الخارجية.
كل ذلك يشكّل نسخة جديدة من الانفتاح والتنسيق الذي تستدعيه ظروف المرحلة. وما يجمع العديد من العواصم اليوم من دوافع وأولويات مشتركة هو ما يدفع فريق ترمب إلى إعادة مراجعة سياسته الإقليمية وإلزام تل أبيب بالتكيف مع الواقع الجديد.
ومع عودة سوريا التدريجية إلى المشهد، وفاعلية الدعم العربي والإسلامي، إلى جانب التنسيق السياسي والاقتصادي مع تركيا، بدأت التحركات المشتركة تعيد رسم الأولويات وتفتح مسارًا جديدًا للحوار والتعاون الأمني والاقتصادي، بما يعكس مستوى أعلى من التفاهمات والاتفاقيات.
لقد فتحت هذه التحولات المجال أمام توازنات جديدة ترتكز إلى التنسيق بين الدول العربية والإسلامية الكبرى، بما يعزز استقلالية القرار ويحد من النفوذ الخارجي. فالانكسار الجزئي للكوندومينيوم الأميركي–الإسرائيلي يذكّر بأن تماسك القوى الإقليمية وقدرتها على استثمار الفرص يقودان في نهاية الأمر إلى قلب الموازين وتحويل الأزمات إلى مساحات لتعزيز السيادة والاستقرار.
وفي الوقت نفسه، أفرزت هذه الديناميات حاجة ملحّة لتنسيق أكثر فاعلية بين الدول العربية والإسلامية الكبرى، بما فيها تركيا ومصر والسعودية وقطر والإمارات، لمواجهة محاولات فرض الإرادات الخارجية وتعزيز الأمن الإقليمي واستقرار ملفات الطاقة والممرات البحرية، بما يضمن أمنًا إقليميًا حقيقيًا ودائمًا.
لم تعد مرحلة السيطرة الثنائية على الشرق الأوسط قائمة، والتحولات الحالية تفتح المجال لمعادلات جديدة تقوم على التنسيق بين الدول الفاعلة في المنطقة، على نحو يعزز استقلالية القرار الإقليمي ويحد من الهيمنة الخارجية.
وما يجري في الشرق الأوسط اليوم يذكّر بالتحول الذي أنهى الثنائية الأميركية–السوفياتية ذات يوم. فالتاريخ السياسي يثبت أن أي هيمنة ثنائية تفقد قدرتها على التحكم حين تتجاهل ديناميات القوى الصاعدة. وفي الوضع الإقليمي الراهن، يتكرر هذا المنطق بوضوح: توازنات جديدة تتشكل، وأطراف إقليمية تفرض حضورها، في مشهد يتجاوز إلى حدّ كبير معادلة النفوذ الأميركي–الإسرائيلي التقليدية.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى