قضية الصحراء والمستقبل المغاربي

عبدالله هداري

              

ورد في المثل السائر “مصائب قوم عند قوم فوائد”. ولذا، قد تحمل شخصية الرئيس الأميركي ترامب الشعبوية بعض الفائدة في غير أمر، وهو الذي لا تكاد تخلو صحيفة في الولايات المتحدة من مقال ينتقده، ويجعل منه السبب في نهاية الإمبراطورية أو السبب في عصر الفوضى اللاخلّاقة الجديد أو نهاية العالم… إلخ. والخلاصة هنا أن اللحظة الراهنة ملك للشعبوية اليمينية عالمياً، وليس في الولايات المتحدة وحدها. وسبب إيراد هذا المثل، أن هذه الشخصية السياسية بحمولتها السيكولوجية قد تحمل فوائد لبعض قضايا النزاع الدولي، على ما يبدو، كما هو الحال اليوم بالنسبة إلى القضية الصحراوية التي أمضت خمسين سنة في ردهات التفاوض والخلاف الأممي.
تتزامن التطوّرات أخيراً في هذه القضية مع الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء في المغرب. ومن دون تحوير للكلام، يمكن القول إنها تشهد، للمرّة الأولى في تاريخها، مرحلةً فعليةً من الحسم الممكن والنهائي، حسمٌ جعل منه مشروع القرار الأميركي المعلن أخيراً، إمكاناً مرتقباً جدّاً وذا سقف زمني محدّد، 60 يوماً بحسب مهلة الإدارة الأميركية في شخص مبعوثها للسلام في الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أو ثلاثة أشهر على أقصى تقدير حسب المُستجِدّ الخاص بالمهلة الجديدة التي منحت لبعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (مينورسو)، التي ستنتهي ولايتها نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الحالي. إذن، نحن أمام ثلاثة أشهر حاسمة لهذه القضية، وقد يكون من الوجاهة القول إنه لا ينبغي الارتهان الكلّي لما ستؤول إليه الأوضاع خلال هذه الأشهر القليلة المقبلة، ذلك أن هذه القرارات ما هي إلا خلاصة توافقات سياسية واستراتيجية سابقة، تسير كلّها في اتجاه حلحلة هذا النزاع الأممي بشكل نهائي.

تشهد القضية الصحراوية للمرّة الأولى مرحلةً فعليةً من الحسم الممكن والنهائي

تقوم سياسة الإدارة الأميركية الحالية، كما هو معلوم، على منهجية المكافأة والعقاب، والفضح والابتزاز، وضبابية القرار التي تجعل مواقف الرئيس ترامب غير متوقّعة دوماً. ولهذا، فحينما تيمّم الإدارة الأميركية نظرها شطر هذه القضية لإنهاء النزاع القائم بين المغرب والجزائر، فذلك يعني أن القضية أخذت محلّها ضمن أجندات ترامب، ولا بدّ لها أن تنفَّذ، ولا يمكن تأخيرها أكثر، وكل معاكسة لهذا التوجّه ستكون ضريبته كبيرة. فالرئيس الأميركي صاحب قدرة غير مسبوقة على الجمع بين التسلّط والإطراء والمبالغة، حسب توماس فريدمان في مقالته في “نيويورك تايمز” (15 أكتوبر 2025). ومن الأشياء الأخرى التي تبيّن أن المسألة آخذة مسيرها نحو التحوّل، وربّما نحو الحلّ النهائي، التصريحات التي نقلتها وسائل الإعلام عن جبهة البوليساريو، التي أبدى زعيمها إبراهيم غالي في رسالة إلى الأمين العام أنطونيو غوتيريس الاستعداد لتقاسم فاتورة السلام مع المغرب. ومن الواضح أن ظلال ترامب تحضر بقوة هنا خلف عبارة السلام هذه (!).
جاء في نصّ مسودة مشروع القرار (النسخة صفر)، التي وزعتها بعثة الولايات المتحدة بشأن قضية الصحراء، تأكيد واضح على أن الولايات المتحدة تتخذ من الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية الحلّ الوحيد للنزاع، وأن جميع الأطراف ينبغي لها الانخراط في النقاش “من دون تأخير” حسب عبارة المسودة، وبتكرار مقصود لعبارة “باستخدام مقترح الحكم الذاتي المغربي إطاراً وحيداً للتفاوض”. وهي المشروع الذي سيصوّت عليه يوم 31 أكتوبر 2025. وكما سبق القول، فالعبارات الواردة في المسودة تفصح عن الصورة المستقبلية للنزاع، ولا يبقى أمام الملاحظين والخبراء غير التكهّن عن طبيعة التعاطي الممكن لكل أطراف النزاع مع الواقع الجديد، بالإضافة إلى نقاش معايير تقييم الخسارة والربح بالنسبة لهذه القضية عند كل طرف.
بالنسبة إلى المغرب، من الواضح أنه يستقبل هذه المعطيات كلّها بارتياح كبير، وخصوصاً بعد الجولات الديبلوماسية الماراثونية الجادّة التي استطاع من خلالها جلب أغلب الكبار في مجلس الأمن لصالح مقترح الحكم الذاتي، بمن فيهم روسيا أخيراً (في موقف تقارب ملحوظ). فالنزاع بالنسبة إلى المغرب كان من الأشياء المؤثّرة في نسبة النمو في البلاد، إلى جانب ما يستنزفه من الموازنات المالية بخصوص وزارة الدفاع والجيش، آخرها الميزانية الكبيرة التي رُصدت، وبلغت 16 مليار دولار أميركي بزيادة قدرها 17.77% مقارنةً بميزانية السنة الماضية، وتوحي برسائل كثيرة من المغرب الذي يتوقّع الاحتمالات كلّها (والأمر عينه عند الجزائر: 24 مليار دولار أميركي). ومن جهة أخرى النزاع عرف تطوّراتٍ سلبيةً في الآونة الفائتة، بالأخصّ على مستوى العلاقات بين سكّان البلدَين، فارتفعت نسب الكراهية والحقد إلى حدود غير مسبوقة. وهو واقع مرير أسهمت فيه وسائل التواصل الاجتماعي بالنسبة الكبرى، وبتمويل سخي من الطرفَين، وهي مسألة غير مقبولة بين بلدَين يجمعهما الانتماء التاريخي والجغرافي، بل والعرقي المشترك إن أحببنا ذلك.
أمّا بالنسبة إلى الجزائر فالمسألة قد تأخذ منحىً سياسياً صعباً، لأن الجزائر كما يظهر أولت الملفّ حساسية كبرى، واستنزفت من خلاله أموالاً طائلة (والأمر عينه في المغرب)، وعلّقت على هذه القضية أمالاً تفوق حجمها الطبيعي بالنسبة إلى سياساتها العامة. وإذا كان الأمر مقبولاً إلى حدّ ما بالنسبة إلى المغرب، ما دامت القضية مسألة أرض وسيادة، فالأمر يختلف بالنسبة للجزائر إذا ما سارت القضية نحو الحلّ بناء على خيار الحكم الذاتي، لأنها ستكون أمام محاسبة شعبية أكيدة، وإن على المستوى الرمزي، وداخل أروقة وسائل التواصل الاجتماعي نفسها التي سبق أن مُوِّلت لأغراض عكسية تماماً، ما سيزيد من نسب الغضب الداخلي. أمّا بالنسبة إلى الصحراويين، فالأمر في مجمله وباختصار شديد يعني نهايةً لحياة مأساوية طويلة داخل المخيمات، وتمكين جيل جديد من الصحراويين من العيش بكرامة ومستقبل أفضل.

بالنسبة إلى الصحراويين، يعني الحل نهايةً لحياة مأساوية طويلة داخل المخيمات، والعيش بكرامة

غير أن الأمر إذا نظر إليه من الزاوية السياسية الضيّقة، لمعنى خاسر ورابح، فإن ذلك سيزيد من واقع الكراهية والحقد بين مواطني البلدَين وسياساتهم، لكن إذا نُظر إليه بعين سياسية مرنة، تعطي التغيّرات الجيوسياسية العالمية الأخيرة حقّها، فإن الصورة تحمل كثيراً من أوجه التفاؤل والأمل، لأننا سنكون أمام منعطف حقيقي سيمنح الواقع السياسي لكلٍّ من المغرب والجزائر، ودول الجوار المغاربي أيضاً، تحدّيات جديدة، على المستويات كلّها، المؤسساتية والحقوقية والديمقراطية والاقتصادية، سواء في كيفيات تفعيل الحكم الذاتي (“الحقيقي” حسب عبارة مسودة القرار) داخل المغرب، أو ما سيخلّفه ذلك من تحدّيات جديدة بالنسبة إلى الجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا على جميع الأصعدة سالفة الذكر. كما أن مارد اتحاد المغرب الكبير سيعاود إظهار رأسه في قمّة المطالب السياسية للأجيال المقبلة، بعدما ارتفعت أهم عوائقه، لتكون المحصّلة واقعاً سياسياً جديداً على المستوى المغاربي، ستختلف فيه الأسئلة والتوقّعات.
ولا يعتقدن المرء أن كل ما يقال هنا مجرّد أمل عابر ويوتوبيا مستحيلة التحقّق، بل هي الحقيقة التاريخية لمستقبل الشعوب ذات الإرث التاريخي المشترك، التي مهما طغى فيها صوت الكراهية والتشرذم تعود إلى سالف عهدها دوماً، كما النهر يعود إلى مجراه، وما دامت الشعوب الإسلامية بما فيها المغرب والجزائر لا تفصل القضية الفلسطينية عن أهم قضاياها الأساسية، فكيف بها بين شعوب بلدان مغاربية لطالما شكّلت قوةً تاريخيةً إسلامية في القارة الأفريقية.
تخبرنا الدراسات النفسية بأن من ولد في ظلّ أزمة معيّنة وتعوّد العيش فيها، يصبح من العسير عليه أن يتوقّع سقفاً للعالم من دون وجودها، وهي من العقد النفسية الصعبة التي تحتاج إلى صرامة ذاتية في النقد والتعامل لمن أراد العبور فعلاً نحو العالم الجديد، وهو الأمر عينه بالنسبة لكل أطراف النزاع اليوم. إذا حدث أن تحقّق الحلّ لهذه القضية، فذلك باب فعلي قد فتحه القدر أمام الجميع لتجاوز الخسارات السابقة، والتفكير في المستقبل المشترك للجميع مغاربيّين وأفارقة. وعلى الجميع أن يتذكّر دائماً نصيحة توماس فريدمان للرئيس الأميركي دونالد ترامب بخصوص السلام في الشرق الأوسط: “تحرّك بسرعة واكسر الأمور”.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى