التطبيع مكافأةٌ لمجرمي الحرب

محمود الريماوي

                                                                                  

مع الاعتراف بالدور الذي أداه الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتوصّل إلى اتفاقٍ وضَع حدّاً لحرب نتنياهو على غزّة، إلا أن تصويره الأمر بداية سلام شامل و”عظيم” في المنطقة يجانبه الصواب. ولم يوافقه فيه أحد من الساسة والخبراء في أميركا ودول منطقتنا، ولا تتجاوز الآمال في هذه المرحلة تنفيذ الاتفاق، وانسحابا متدرّجا لقوات الاحتلال، وتدفّق المساعدات، وتنظيم وجود السلاح، وتشكيل لجنة لإدارة القطاع، مع الحاجة لإجراء مزيد من المفاوضات حول كل شيء. وهذا ديدن حكومة نتنياهو في التعطيل، وفي إدامة المعاناة البشرية في الطرف الآخر. وسوف يستغلّ نتنياهو السنة الباقية من ولايته لإعاقة التنفيذ، ومحاولات فرض وصايةٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ على القطاع بصور شتى، والسعي إلى تغذية الخلافات داخل الصفّ الفلسطيني.

وخلافاً لمطالب إقليمية ودولية واسعة للربط بين الضفة الغربية وقطاع غزّة، لا يتطرّق ترامب إلى تنكيل المستوطنين المسلّحين الواسع هناك، المؤتلفين مع أجهزة أمن الاحتلال. وإنْ يُحسب له تعهّده بمنع إعلان ضمّ الضفة الغربية رسمياً لدولة الاحتلال، وهو موقف جيّد يفضي إلى الاعتراض على توسّع الاستيطان، واستباحة سائر المناطق بما فيها المصنفة “أ”. وبينما يصرّ سيّد البيت الأبيض على تسليم حركة حماس سلاحها لا يتعهّد، في المقابل، بضمان انسحاب إسرائيلي كامل، يشمل ما يسمّيها الاحتلال “منطقة عازلة” تحيط بالقطاع.

وكعادته في الوقوع السهل في التناقض، أكّد ترامب غداة توقيع الاتفاق أنه سيقرّر “ما يراه صائباً” لمستقبل الفلسطينيين والقطاع. وقال في أثناء عودته إلى واشنطن إن “كثيرين يؤيّدون حلّ الدولة الواحدة، وبعضهم يفضّل حلّ الدولتَين… سنرى”. وأضاف: “لم أعلّق على ذلك بعد. سأقرّر ما أراه صائباً، وبالتنسيق مع دول أخرى”. ولم يلبث أن خفّض سقف التوقّعات: “لا أتحدث عن دولة واحدة أو دولتَين. نحن نتحدّث عن إعادة إعمار غزّة”. ويكاد الرجل يعترف بضبابية رؤيته لحلّ سياسي شامل، وهو ما يُريح الجانب الإسرائيلي الذي يعمل على تركيز الأضواء في غزّة، بعيداً من الضفة الغربية وما يجري فيها، مع تجاهل السلطة الفلسطينية. وقد لوحظ هذا التجاهل في اجتماعات شرم الشيخ، الأمر الذي يلبّي رغبة حكومة الاحتلال في إسقاط الجسم السياسي الفلسطيني من الحسابات، ما يصطدم بتوجّه عربي وإقليمي يدعو إلى أن يدير الفلسطينيون بأنفسهم غزّة، فضلاً عن أن رجال الشرطة المدرّبين يتبعون السلطة، وكذلك الوجود الفلسطيني على معبر رفح.

الراجح أن أفضل ما ينتظرنا التشبّث بالممكنات التي أطلقها اتفاق غزّة

لا يمكن للسلام الشامل المزعوم، الذي يتغنّى به ترامب، أن يتحقّق مع الضبابية التي تكتنف الرؤية الأميركية، ومع الإيحاءات السيئة بأنه ليس لدى الفلسطينيين من يمثّلهم (هناك ما يُنبئ بالبحث عن قيادة فلسطينية من رجال أعمال بديلاً من الفصائل والسلطة)، وهو ما يَسمُ المرحلةَ المقبلةَ بتوترات سياسية مستمرّة. فلن يستطيع ترامب أو سواه أن يقرّر منفرداً مصير شعب بأسره، فهذه وصفة لإدامة الصراع، لا للشروع في حلّ جدّي. والراجح أن الرجل سوف ينصرف إلى إعمار غزّة على طريقته، وجعلها منطقةً خاليةً من أي نشاط سياسي. ومع ذلك، سيجعل أبناء القطاع إعادة الإعمار الشاقّة والجليلة تكتسب بالضرورة بُعداً سياسياًً، إذ تشهد هذه العملية على إرادة الحياة المتجدّدة، وعلى النزوع الثابت إلى الحرية والاستقلال وبناء الذات الوطنية الجمعية. ويكمن التحدّي في حصر الخلافات الداخلية وإظهار الاحترام اللازم المتبادل للمكوّنات الوطنية على اختلافها. والأهم هو الوقوف بحزم ضدّ محاولات شيطنة ظاهرة المقاومة، وتصويرها أنها انتهت أو استسلمت، وهو ما يتطلّب في الردّ عليه إرساء تكامل وظيفي بين السلطة والفصائل، مع تحريم الاصطدام أو حتى الاحتكاك الداخلي، وإعادة تنظيم وجود السلاح بتفاهم فلسطيني عربي ورعاية عربية وتركية، مع الإقرار بأن هذه المرحلة لإعادة البناء وبعث الحياة في القطاع المدمّر. وهو ما يتطلّب تفاهماتٍ دقيقة وتعزيز الثقة بين المكوّنات المختلفة، وقطع الطريق على الاحتلال في شق الصفوف، أو تجديد الحرب، ولو جزئياً أو موضعياً، ضدّ الفصائل، مع التزام هذه الأجسام بوقف كل نشاط مسلّح، والتعاون مع قوة مراقبة وقف إطلاق النار أو “قوة الاستقرار” المقرّر أن تتشكّل من الضامنين وغيرهم، علماً أن مسؤولين أميركيين، بينهم ستيف ويتكوف، أعلنوا عدم استعداد بلادهم للمشاركة في أيّ وجود عسكري في القطاع.

لن يتوهّم أحد انبلاج فجر السلام قريباً أو في أمد منظور، رغم ما يشيعه ترامب من أجواء وردية وإشادات ذاتية بشخصه

… وهكذا، لن يتوهّم أحد انبلاج فجر السلام قريباً أو في أمد منظور، رغم ما يشيعه ترامب من أجواء وردية وإشادات ذاتية بشخصه. ومفهوم الرجل للسلام لا يتطابق بالضرورة (ولا ينسجم) مع رؤية ضحايا الصراع الطويل، ولا مع مقتضيات العدالة، ولن تكفّ إدارته عن محاولات توسيع دائرة التطبيع لتشمل دولاً جديدة، ولن تكون الطريق معبّدةً هذه المرّة نحو هذا الهدف، إذ يمثّل التطبيع في هذه الظروف مكافأةً سخية ومشينة لمجرمي الحرب الذين شنّوا حرب إبادة عامَين، وقد أثبتت حكومة تل أبيب أنها مقيمة على رؤيتها العنصرية وسلوكها المتوحّش نحو أصحاب الأرض، ما أثار أكبر موجة اعتراض عالمية شعبية ضدّها، وما حدث في اتفاق غزّة لا يعدو سوى وقف إطلاق نار، وبداية نهاية للحرب في هذه المرحلة على القطاع، مع استمرار الحرب “الصامتة” والشرسة على الضفة الغربية، فيما يثبت أعضاء حكومة نتنياهو، ومن خلفهم أحزابهم المتطرّفة وجمهورهم المهووس، أنهم لا يمنحون للسلام أيَّ اعتبار، مقابل تمسّكهم بمشروع “إسرائيل الكبرى”، وهو ما يُشكّل تحدّياً جسيماً للكيانات العربية.

والراجح أن أفضل ما ينتظرنا التشبّث بالممكنات التي أطلقها اتفاق غزّة، وإدامة شلّ آلة الحرب الإسرائيلية، والسعي إلى وقف التعدّيات الصفيقة على الضفة الغربية أرضاً وشعباً ومؤسّسات، أمّا أوهام السلام فلا يصدّقها أيُّ طفل.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى