
لم يأتِ الاتفاق بين فصائل المقاومة الفلسطينية (وفي مقدمها حركة حماس) وإسرائيل في شرم الشيخ (مصر)، الذي سارع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إعلانه قبل غيره أول من أمس الأربعاء، بالصيغة الأمثل التي تتناسب طردياً مع تضحيات الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة. ورغم ذلك، لا نملك إلا أن نشاطر الغزّيين فرحهم بما نرجو جميعاً أن يكون بداية نهاية حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّهم. صحيحٌ أن الاتفاق متعلّق بالمرحلة الأولى فحسب، وتتضمّن وقف إطلاق النار، وانسحاب القوات الإسرائيلية في قطاع غزّة إلى خطوط متّفق عليها، ثمَّ تبادل الأسرى الأحياء، ورفات القتلى، والدخول الفوري للمساعدات الإنسانية. ثمّ تبدأ المرحلة الثانية الأكثر تعقيداً وخطورة.
تشمل المرحلة الثانية من المفاوضات (إن كُتب لها أن تبدأ) ملفّات حسّاسة عديدة تتعلّق بمستقبل قطاع غزّة، أهمها أربعة. أولاً، مفاوضات “اليوم التالي” في قطاع غزّة لناحية الهيكلين الأمني والسياسي فيها. وتتمحور هذه النقطة حول ما إذا كانت “لجنة التكنوقراط الفلسطينية” التي ستوكل إليها مهمّة إدارة القطاع ستكون ذات صلاحيات حكومية، أم بلدية فقط تحت وصاية “مجلس السلام” الذي سيرأسه ترامب نفسه مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير. في هذا السياق، تبرز قضايا أخرى شائكة، مثل هُويَّة الطرف الذي سيتولّى إعمار قطاع غزّة، وماهية (وطبيعة) مهمّة القوات التي سيجري نشرها في القطاع، هل تكون عربيةً وإسلاميةً، أم قوات دولية، أم بالدمج بين كليهما؟ وهل ستكون هذه القوات في حدود القطاع، أم داخله؟ ثانياً، مسألة سلاح “حماس” وفصائل المقاومة الأخرى، هل سـ”ينزع”، وهو الأمر الذي ترفضه المقاومة، وتقول إنه لن يُسلّم إلا إلى حكومة فلسطينية وطنية وشرعية وتوافقية، ولكن إسرائيل تصرّ عليه، أم سيُبحث في صيغة لـ”تجميده” و”وضعه”، كما يقترح الوسطاء القطريون والمصريون والأتراك. ثالثاً، مستوى انسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزّة ومداه، وهل ستحافظ على وجود عسكري في “محيط أمني” فيه، وما هو الأفق الزمني لذلك؟ ورابعاً، طبيعة الضمانات المقدّمة للجانب الفلسطيني ومصداقيتها وموثوقيتها لناحية أن إسرائيل لن تتنكّر للاتفاق (كما فعلت من قبل) ومن ثمَّ تعود إلى حربها الهمجية ضدّ الغزّيين بعد أن تكون قد استعادت أسراها.
نتنياهو قد لا يقامر بتحدّي ترامب، ولكنّه لن يتردّد في محاولة التلاعب به، وقد نجح في ذلك مرّات عدّة من قبل
إذن، هو اتفاق مليء بالألغام، وله مرجعيات ثلاث مختلفة، فالمقاومة الفلسطينية التي تحظى بمقدارٍ متفاوتٍ من الدعم من الوسطاء الثلاثة (القطريون والمصريون والأتراك) لديها تفسيرها الخاصّ لبنود الاتفاق الأولي، والشكل النهائي الذي ينبغي أن ينتهي إليه، في حين أن لدى إسرائيل تصوّر مناقض تماماً للصيغة النهائية للاتفاق واشتراطاته. ورغم أن الولايات المتحدة أقرب إلى المقاربة الإسرائيلية، إلا أنها لا تتردّد في إيجاد مسافة نسبية معها وإظهار مرونة أكبر في محاولة لحسم وقف إطلاق النار، لأسبابٍ شخصيةٍ متصلةٍ بترامب، ونرجسيته، وإرثه الرئاسي، وكذلك لأسباب سياسية داخلية وخارجية، تتعلّق بتزايد الانقسام الأميركي حول إسرائيل، حتى داخل القاعدة الانتخابية لترامب (حركة لنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى أو “ماغا”)، وتصاعد الاشمئزاز الدولي من جرائم إسرائيل وصلفها، والتعامل معها دولةً منبوذةً، ما يزيد من العبء على الولايات المتحدة دعماً لها في المسرح الدولي.
الاعتبارات السابقة حاضرة، وتجعل من وقف إطلاق النار المؤقّت في المرحلة الأولى هشّاً وقابلاً للانفجار مجدّداً. ولكن، أيّ هدوء ووقف لآلة القتل الإسرائيلية الهمجية، ودخول المساعدات الإنسانية ولو لفترة قصيرة، أمرٌ يستحقّه الغزّيون، الذين دخلوا في العام الثالث من حرب إبادة قَلَّ أن شهد التاريخ الإنساني مثل وحشيتها. ولعلّ من المفارقات الصاخبة في هذا السياق أن ترامب، الشريك في جريمة إبادة قطاع غزّة، هو الضامن الأول لهذا الاتفاق، بل (للأسف!) هو أمل استمراره واحتمال وصوله إلى نهاية يضع فيها العدوان أوزاره. ترامب ليس مثل سلفه جو بايدن. هو نرجسيٌّ وكذّاب ومحتالٌ ومجرم، ولكنّه ليس ضعيفاً وتافهاً أمام نتنياهو مثل بايدن. إذا حزم ترامب أمره في أمرٍ يعمل لإنفاذه. ونتنياهو يمكنه أن يحاول المراوغة مع ترامب، كما فعل في يوليو/ تموز الماضي، عندما نجح في تحميل حركة حماس مسؤولية رفض مبادرة ترامب حينها، رغم أنه هو الذي رفضها، ولكنّه لا يستطيع تحدّيه كما كان يتحدّى بايدن. كلّنا يذكر عندما أعلن بايدن في 31 مايو/ أيار 2024 ما وصفه بـ”مقترح شامل جديد، خريطة طريق لوقف إطلاق نار دائم، وإطلاق سراح جميع المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزّة، يشتمل على ثلاث مراحل”. حينها قال بايدن إن الخطّة جاءت من نتنياهو نفسه. ثم لم تمض 24 ساعة حتى كان مكتب نتنياهو يصدر بياناً جاء فيه أن إسرائيل لن توقف الحرب قبل أن تحقق “تدمير القدرات العسكرية والسلطوية لحماس، وتحرير جميع المحتجزين، وضمان عدم تشكيل غزّة تهديداً لإسرائيل”. و”إن فكرة موافقة إسرائيل على وقف إطلاق نار دائم قبل استيفاء هذه الشروط أمر غير مقبول”.
المفارقة أن ترامب الشريك في حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الغزّيين يصبح الضامن لحلٍّ هشّ
أفشل نتنياهو مبادرة بايدن تلك، متهماً إياه ضمناً بالكذب، رغم أن حملة الأخير الرئاسية كانت تمنّي نفسها بأن يطير إلى الشرق الأوسط في يونيو/ حزيران 2024 (قبل الانتخابات الرئاسية بخمسة أشهر، التي لم يكن قد انسحب منها بعد) ليرعى مراسم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار ودخول السعودية نادي الاتفاقات الإبراهيمية، وتقديم ذلك إنجازاً عظيماً له في السياسة الخارجية. في الوقت نفسه، كانت هيئة محلّفين في نيويورك قد دانت ترامب قبل يوم واحد بالإجماع، بارتكاب 34 جريمة جنائية تتعلّق بتزوير سجّلات مالية في قضية دفع أموال لممثلة إباحية لشراء صمتها والتأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية (2016)، التي فاز فيها ترامب بولاية أولى. لم يحفظ نتنياهو الجميل لبايدن الذي قدّم له كل الدعم الأميركي الممكن في حرب الإبادة في قطاع غزّة، وفي المنطقة ككل، فكان أن تنكّب له، من دون أن يخشى ردّة فعل منه، فهو كان أضعف من أن يقوم بذلك.
أمّا ترامب، فيدرك نتنياهو أن التعامل معه مختلف. قبل أقلّ من أسبوع من نهاية ولاية بايدن وتسلّم ترامب الرئاسة (في 21 يناير/ كانون الثاني الماضي)، ضغط الرئيس المنتهية ولايته، والرئيس المنتخب، على نتنياهو للقبول بوقف إطلاق للنار، وهو ما جرى، بضغوط من ترامب ومبعوثه ستيف ويتكوف بالدرجة الأولى. لم يفوّت ترامب فرصة ادّعاء الفضل، وأنه لولا تدخّله لما كان بايدن قادراً على تكسير عناد نتنياهو، وهذا صحيح. ولكن ترامب الذي لا يقبل تحدّيه ليس عصيّاً على المراوغة والاحتيال عليه، وهذا ما فعله نتنياهو بعد شهرين فقط (مارس/ آذار الماضي) حين انقلب على الاتفاق واستأنف الحرب على قطاع غزّة. وعندما استدعى ترامب نتنياهو في يوليو الماضي لمناقشة مبادرة جديدة لوقف إطلاق النار في غزّة، جاءه نتنياهو مراوغاً ومحتالاً مرّة أخرى، فأعلن في حضوره أنه أرسل رسالةً إلى لجنة نوبل للسلام يرشّحه فيها للجائزة، وهكذا أُفشلت مبادرة أخرى. أمّا اليوم، فيبدو أن السياقات تغيّرت، فنتنياهو الذي عضَّ يد بايدن التي امتدّت إليه وانتشلته بعد عملية طوفان الأقصى، هو نفسُه من يدعو ترامب إلى إلقاء كلمة في الكنيست، بعد تصديق حكومته المفترض على الاتفاق (كتبت هذه السطور قبل اجتماع الحكومة الإسرائيلية أمس الخميس). ومع ذلك، نُذكِّر ثانياً، وثالثاً، ورابعاً. نتنياهو قد لا يقامر بتحدّي ترامب، ولكنّه لن يتردّد في محاولة التلاعب به، وقد نجح في ذلك مرّات عدّة من قبل. هنا مكمن الخطورة. نتمنى ألّا يكون الحال كذلك هذه المرّة، خصوصاً في ضوء الضغوط القطرية والمصرية والتركية، وغيرها من الدول العربية والمسلمة.
المصدر: العربي الجديد