المجتمع المدني السوري المفقود.. تاريخ من التكافل

فارس الذهبي

منذ شهرين، تتوالى في المدن السورية حملات تبرع وتكافل شعبي لإعانة المتضررين من الانهيارات المعيشية والاقتصادية. تتدفق صناديق المعونة من البيوت الفقيرة قبل الغنية، ويتطوّع الشباب لجمع التبرعات وتنظيم حملات الدعم المحلي. المبالغ متواضعة بالمقارنة مع حجم الدمار الرهيب الذي خلفه النظام السابق، لكنها تحمل دلالة رمزية ضخمة: أنّ المجتمع السوري ما زال قادرًا على استدعاء روحه الجماعية رغم الدمار والانقسام. ولعلّ المفارقة أن هذه الحملات تأتي في لحظة خذلان سياسي واقتصادي، بلا رعاية رسمية تُذكر، كأنها إعلان صامت عن رغبة السوريين في النهوض دون انتظار المنقذ الدولي أو القرض المشروط.

إلا أن هذا المشهد ليس جديدًا على الذاكرة السورية. فالتكافل الشعبي كان يومًا أحد ملامح الشخصية الوطنية في النصف الأول من القرن العشرين؛ حين كانت البلاد، الخارجة من الاستعمار، تصنع دولتها بيدها، وتحتمي من الكوارث بصدور أبنائها.

ليست موجة التبرعات الأخيرة طارئة على السوريين. فمنذ منتصف القرن العشرين، برع هذا الشعب في تحويل الشدائد إلى لحظات تلاحم مدني. ففي عام 1948، أطلقت المدن السورية أولى حملاتها لجمع المال والذهب دعماً للمجهود في الحرب، ثم تجددت الحملة على نطاق أوسع خلال العدوان الثلاثي عام 1956، حين خرجت النساء في دمشق وحلب ودرعا واللاذقية ودير الزور يتبرعن بأساورهن ومصاغهن لدعم “المجهود الحربي”، في حين فتح التجار صناديقهم لتغطية نفقات الجيش والمصابين.

هذه المبادرات، المتصلة كحبات سبحة، تروي قصةً واحدة: أن التضامن السوري ليس شعارًا بل ذاكرة جماعية تتجدد كلما اشتدّ الألم.

بعد نكسة حزيران 1967، تحوّل التبرع إلى رمز وطني للمقاومة، فانتشرت حملات الدم والمال لأسر الشهداء، بالتوازي مع استمرار التبرعات الدائمة لدعم اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات اليرموك والسبينة وجرمانا. ورغم أنّ العقود اللاحقة شهدت تضييقًا متعمدًا على العمل الأهلي، فإن روح التكافل بقيت تتسلل من بين الفجوات: مبادرات محلية لمساعدة الطلبة والعاطلين في التسعينيات، وصناديق إعانة في النقابات والكنائس والجوامع.

وحين اندلعت الاحتجاجات عام 2011 وما رافقها من كوارث إنسانية، حاول السوريون استعادة ذاكرتهم التضامنية بتنظيم حملات إغاثة محلية، إلا أن النظام واجهها بقمعٍ وحشيٍّ وتضييقٍ متعمد، فسُجن المتطوعون واختفَوا في أحيان كثيرة وصودرت المساعدات، في محاولة منه لفك روابط المجتمع وإخماد أي شكل من أشكال التعاضد المستقل. وما إن وقع زلزال شباط 2023 حتى شهدت البلاد واحدة من أوسع حملات التكافل في تاريخها:

الأحياء تحتضن بعضها بعضاً، الكنائس والجوامع تتحول إلى مراكز إيواء، والسوريون في الداخل والمهجر يرسلون المساعدات بما استطاعوا. حملة دير الزور الأهلية الشهيرة لدعم متضرري الزلزال.

هذه المبادرات، المتصلة كحبات سبحة، تروي قصةً واحدة: أن التضامن السوري ليس شعارًا بل ذاكرة جماعية تتجدد كلما اشتدّ الألم.

ولعل أبرز قصص نهوض المجتمع المدني البعيد عن السلطة والذي يجسد التضامن المجتمعي الحقيقي حصلت حينما وقعت كارثة حمص عام 1950، حين انفجر مستودع ديناميت تابع لشركة خاصة وأحال أحياءً في المدينة إلى أنقاض، فهُرع الناس من كل المحافظات لجمع التبرعات، في الوقت الذي كانت فيه الجمعية التأسيسية السورية تناقش الحادث في جلساتها بحزم وشفافية بعد وقوفهم دقيقة صمت جليلة طلبوا تعميمها في مدارس سوريا كلها. اقترح النواب يومئذ أن يتبرع كلُّ واحد منهم بمئة ليرة من راتبه لمساعدة المنكوبين، في حين بادرت الحكومة إلى فتح اعتماد طارئ، ومحاسبة الشركة المسؤولة. كان التضامن قرارًا وطنيًا عامًا، لا عملاً خيرياً هامشيًا.

حينما كان لدينا صحافة حقيقية، كتبت الافتتاحيات عن “الرياضة التي انتصرت على الموت“.

استمر بهاء هذا التضامن والحراك المدني في ملعب حمص البلدي يوم الجمعة 28 تموز 1950، حين أقيمت مباراة دولية بين النادي الأهلي المصري ونادي خالد بن الوليد — الذي عُرف لاحقًا باسم الكرامة. لم يكن اللقاء مباراةً عادية، بل كان حدثًا وطنيًا جامعًا؛ فهدفُه كان جمع التبرعات لمنكوبي حمص. امتلأت المدرجات بآلاف السوريين، بعضهم جاء من دمشق وحماة وحلب بالقطارات والسيارات. كانت المدينة ما تزال تلملم جراحها من الانفجار الرهيب الذي أودى بحياة أكثر من 85 شخصًا، بينهم رجال شرطة وجيش ومدنيون. تحول الملعب إلى ساحة عزاء جماعي ونهوض في الوقت نفسه؛ أعلام مصر وسوريا ترفرف جنبًا إلى جنب، واللاعبون يدخلون أرض الميدان وسط تصفيق الجمهور الذي لم يأتِ لمشاهدة فوز أو خسارة، بل ليُظهر أن الرياضة يمكن أن تكون طقسًا للتكافل.

انتهت المباراة بنتيجة خمسة أهداف للأهلي مقابل هدف واحد لأصحاب الأرض، لكن أحدًا لم يهتم بالنتيجة. الحدث الحقيقي كان صندوق التبرعات الذي امتلأ بمدَّخرات الناس، ودموع النساء اللواتي رفعن صور الضحايا وأولادهن. في الصحف الصادرة في اليوم التالي، حينما كان لدينا صحافة حقيقية، كتبت الافتتاحيات عن “الرياضة التي انتصرت على الموت”، وعن “حمص التي عادت إلى الحياة باللعب لا بالسلاح”. لقد مثَّل ذلك اليوم ذروة الوعي المدني السوري، حين التقت السياسة والرياضة والإيمان بالمجتمع في فِعلٍ واحد.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى