كافكا في غزّة: كيف يقاوم جميعنا التحوّل إلى حشرات 

هاني عواد

ثمّة شعور طاغٍ اليوم، بعد الإبادة التي لم تتوقف لحظة واحدة، أنّنا “جميعنا” قد تحوّلنا إلى حشرات. و”جميعُنا” هنا تحيل إلى كل من يعيش اليوم ما عاشه بطل كافكا حين استيقظ صباحاً ليجد نفسه قد صار حشرة ضخمة، منبوذة، ومقزّزة. غير أنّ الفارق الجوهري أنّنا لم نستيقظ هكذا فجأة، ولم يكن الأمر مصادفة، فإسرائيل لم تدفعنا إلى هذا الموقع عرضاً، بل جعلت من تحويل الفلسطيني إلى ما هو أدنى من البشر سياسة متعمّدة، تهدف إلى سحق الضحية نفسيّاً وأخلاقيّاً، وتجريده من أي حقٍّ في المطالبة، بل حتى من حقه البديهي في الحياة.

ليس ما نشعر به إذاً مجازاً عابراً، بل إحساس مُصنَّع يُراد له أن يكون يوميّاً وملازماً. فهو سلاحٌ منظَّم يُعرف اليوم بـ”نزع الإنسانيّة”، وما نعيشه من كافكاوية هو أحد أعراضه ليس إلّا. والغاية أن ننظر إلى أنفسنا في مرآة التاريخ، فلا نرى أمماً ولا حضارات، بل كائنات وضيعة، كـ”حشرات”، يُراد لها أن تعيش في منطقة رمادية بين الحياة والموت، وبين الوجود والفناء. والمقصود أيضاً أن نتذكّر هذه الصورة كلما فكّرنا بالتمرّد أو مقاومة الغطرسة، وأن نتذكّر أنّها انعكاسٌ دقيقٌ لموقعنا في هذا العالم وفي النظام الدولي الجديد.

لم تعد المعركة اليوم وقف الإبادة فحسب، بل ضد الرواية التي تريد أن تقيّد وعينا. أمّا الردّ عليها فلا يكون عبر رفض الرواية فحسب، بل بالعمل من أجل المقاومة والقصاص من المجرمين

وما ينبغي أن نتذكّره أيضاً أن نزع الإنسانية ليس اختراعاً إسرائيليّاً خالصاً، بل سياسة مألوفة ومستعارة من عُمق الوجدان الأوروبي، فمسرحية كافكا نفسها كانت انعكاساً لتجربة يهود أوروبا ومأساتهم، أمّا تحويل الآخر إلى “لا بشر” والقبول بإبادتهم، فقد ظلّ دائماً خطاباً وممارسةً أوروبية كلاسيكية لإدارة المستعمرات: من أفريقيا إلى آسيا، وصولاً إلى قلب أوروبا نفسها، حيث أعيد إنتاج المشهد عبر تقسيم البشر درجات، وتبرير سحق شعوب بأكملها. لم تبتكر إسرائيل شيئاً هنا، بل أعادت إنتاج هذه التجربة على الفلسطينيين بوعي مقصود، وبكلِّ إصرارٍ وبرود.

والصهاينة، أبناء الثقافة الأوروبية، يعرفون أكثر من غيرهم أنّ أوروبا التي بشّرت بالعقلانية والحرّية هي نفسها أوروبا الوحشية والظلام. يعرفون أنّ الغرب الذي صدّر إلى العالم الليبرالية وثورات الحقوق المدنية هو نفسه الذي قام على الإبادة، فهو الذي صدّر وحوشاً مثل هتلر وموسوليني، ويواصل اليوم تصدير وحوش جديدة مثل ترامب، وويتكوف، وتوم برّاك. والأخير تحديداً، الذي يتصرّف وكأنّه مندوب سامٍ في لبنان وسورية، لم يتردّد في مؤتمر صحافي بنعت صحافيين في بيروت بالحيونة، ما لم يكن زلّة لسان، بل هو تعبيرٌ صافٍ وصريح عن رؤية حيوانية إلى العالم، ترى في الآخر فائضاً عن الحاجة.

جوهر الخطر ليس فقط في أن تُباد الأجساد، بل في أن يُقتل الإحساس بالقدرة على الخروج من هذا القفص النفسي

ومع ذلك، الخطر الأكبر يكمن في الاستسلام لما يُراد له أن يبدو قدراً أبديّاً، فأن نُختزل إلى صورة “الحشرة” لا يعني أنّنا حشرات فعلاً. هذا هو جوهر المعركة: أن نكسر الإطار الذي رُسم لنا، وأن نرفض أن نصير انعكاساً لصورةٍ صُنعت في مختبرات القوة الغربية والإسرائيلية. ما يُراد له أن يكون قدراً محتوماً يمكن أن يُكسر بالفعل اليومي، بالصوت، بالكتابة، وبالمقاومة، وبالإصرار على سرديةٍ مغايرةٍ تذكّر العالم بأنّ الفلسطيني ليس “لا بشراً”، بل إنسان حي، مبدع، ومقاتل من أجل كرامته ووجوده. وهذه ليست مسؤولية الفلسطيني وحده، بل مسؤولية الأمة العربية جمعاء، لأن نزع إنسانية الفلسطيني هو الذي يجري اليوم، لكن معناه الاستراتيجي تهديد المحيط العربي كلّه بمصير مماثل، إذا ما تجرّأ ورفض منطق الغطرسة والسيطرة.

جوهر الخطر ليس فقط في أن تُباد الأجساد، بل في أن يُقتل الإحساس بالقدرة على الخروج من هذا القفص النفسي. لذلك، لم تعد المعركة اليوم وقف الإبادة فحسب، بل ضد الرواية التي تريد أن تقيّد وعينا. أمّا الردّ عليها فلا يكون عبر رفض هذه الرواية فحسب، بل بالتصميم والإصرار، والعمل الدؤوب، من أجل المقاومة والقصاص من مجرمي الحرب الصهاينة، ومحاسبة شركائهم الغربيين المتورّطين في الإبادة الجماعية. هنا معركة البقاء الحقيقية، وهي صعبة، وطويلة، لكنّها ستحدد مستقبلنا: في قدرتنا على أن نتمسّك في حقّنا بالتعريف عن أنفسنا، لا كما يرانا الآخر، بل كما نختار نحن أن نكون.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى