من الخطأ إنكار وجود مسألة كردية في سورية، تضاف إلى جملة التحديات، التي تواجه السوريين وتفرض عليهم إعادة تعريفهم لذاتهم، في ظل الوطنية السورية الجامعة. علماً أنّ الأكراد هم جزء من النسيج الاجتماعي لسورية، إضافة إلى أنهم جزء من شعب حُرم من حقه في إقامة دولته، نتيجة اتفاقات ما بعد الحرب العالمية الأولى.
إنّ الحديث عن المسألة الكردية وتشكّلها في سورية موضوع تاريخي سياسي معاصر، وكانت مطالب وخيارات الحركة القومية الكردية، قبل تسلّط حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) على الكرد، متوائمة مع حجمهم وقدراتهم في سورية، وحريصة على الحفاظ عليهم، بتوزعهم على كامل الجغرافيا السورية.
لقد تسبّب حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في خلق شرخ بين كرد سورية أنفسهم وبينهم وبين المجتمع السوري، فلم تكن القومية الكردية وحقوق الكرد ومظلوميتهم إلّا مطيّة له لتحقيق مصالح حزبية ضيقة في سورية، بالتعاون مع النظام السوري المسبب الرئيسي للمظلومية الكردية.
وفي الواقع، يعيش اليوم، بحسب تقديرات غير رسمية، في الجزيرة السورية (الرقة ودير الزور والحسكة) ما يقارب 3 ملايين نسمة أغلبيتهم من العشائر العربية، ويشكل الأكراد ثلث السكان في محافظة الحسكة، ويقل وجودهم في محافظتي الرقة ودير الزور. ويظهر لنا أنّ ” ثمة إشكاليتين، وكل مشكلة منهما تفتح على مشكلة أخرى، سواء بحلها أو بعدم حلها: أولاهما، تتعلق بانتماء أكراد سورية للشعب السوري، مع تبعات كل ذلك بما لهم وما عليهم. وثانيتهما، تتعلق بانتمائهم إلى شعبهم، المقسم بين عدة دول، مع ما يستوجبه ذلك من تداعيات والتزامات “.
وفي الواقع فإن هاتين الإشكاليتين تطرحان على أكراد سورية مهمة ” تحديد ذاتهم، أو تعريف هويتهم “. مثلاً، فإنّ اعتبارهم أنفسهم جزءاً من الشعب السوري ” يستوجب منهم التصرف على هذا الأساس “، من دون أي اعتبار آخر، مع حقهم في ” الحفاظ على هويتهم وخصوصيتهم القومية وشعورهم بالانتماء إلى قومية أوسع “، ومع حقهم بالمساواة مع سائر المواطنين، ومن ضمن ذلك مشاركتهم في تقرير شكل النظام السياسي وصوغ الدستور والحكم.
في المقابل فـ ” إنّ تغليب اعتبارهم لذاتهم جزءاً من الشعب الكردي، على حساب انتمائهم إلى الشعب السوري، فإنّ هذا يعني افتراقهم عن الشعب السوري “.
وفي الواقع، يتحمل متطرفو القوميين العرب جزءاً من المسؤولية عن إيصال الكرد إلى مرحلة الكفر بالوطن الواحد والعيش المشترك، فهم طالما ” نظروا إلى الكرد كأغيار، وتجاهلوا قضاياهم وحقوقهم “.
إنّ توزّع الأكراد الديموغرافي على قسم كبير من الجغرافيا السورية، خاصة في مدينتي دمشق وحلب، واختلاطهم الكثيف في مناطق الجزيرة السورية وشرق نهر الفرات بالعرب وغيرهم من القوميات الأخرى، يجعل الخيار الوطني السوري خياراً مفروضاً موضوعياً بقوة الجغرافيا والديموغرافيا.
إنّ سورية، بخلاف العراق، لا تسمح طبيعتها الجغرافية، وتداخل مكوّناتها، بالقسمة وفق هذا التصوّر الذي يُراد الاسترشاد به، أو استنساخه، إذ لا يستطيع أيّ مكوّن الانفصال عن غيره، خاصة أنّ المكوّنات العرقية والدينية والمذهبية في سورية، ليس لها جغرافيا محدّدة، وليس لها أغلبية بشريّة إلا في أماكن محدودة جداً، غير مؤهلةٍ لأن تكون أقاليم فيدرالية قائمة بذاتها. وفوق كل ذلك فإنّ الحديث عن فيديرالية وديموقراطية لا يستقيم مع وجود حزب (PYD) مهيمن يفرض سطوته الأحادية بالقوة المسلحة، لأنّ هذا سيكون نموذجاً لحزب بعث آخر.
واليوم لا تزال مناطق شرقي سورية واقعة في دائرة رصد قوى دولية وإقليمية تسعى لفرض وجودها فيها، عبر محاولة إقامة تشكيلات عسكرية وسياسية تدعم هذا الوجود. وفي هذا السياق، يبدو أنّ مصالحة كردية – كردية سورية ستكون ” خطوة هامة على طريق المشروع الوطني السوري، والمقدمة المطلوبة للارتقاء بالعلاقة العربية – الكردية نحو مستويات أفضل، وأكثر تطوراً، تنسجم مع وقائع التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة، والموجبات الوطنية. خاصة إذا فكَّ حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الارتباط مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، والاندماج مع الواقع السياسي الوطني السوري، وسيكون من دون شك لصالح الكرد والعرب والسريان والتركمان، وسائر المكوّنات المجتمعية في منطقة شرقي الفرات، ولصالح السوريين بشكل عام في جميع المناطق السورية “.
وهكذا، في ظل صراع الهويات القائم اليوم، وكذلك المقتلة التي عصفت بسورية، أصبح السوريون في حاجة ملحّة إلى عقد اجتماعي جديد، ينقلهم إلى الحالة الوطنية الجامعة، يخلق مساحة لمشاركة قوى سياسية واجتماعية واقتصادية في العملية السياسية الوطنية. وما ينبغي قوله، هنا، هو أنّ الانطلاق من البعد القومي فقط، لحل المسألة الكردية بدلالة الوطنية السورية الجامعة، قد يحمل نتائج سلبية قاتلة، لجهة التخندق خلف الأيديولوجيا القومية الضيقة، فقضايا الدول ” لم تعد تحلّ بمثل هذه النظريات الضيقة، وإنما من خلال تأسيس دولة عصرية، لا تسخّر السلطة لصالح هوية قومية أو دينية أو طائفية محددة على حساب باقي الهويات والمكوّنات، فنموذج الحكم في الدول ينبغي أن يجسّد كل هذه الهويات والمكوّنات الاجتماعية والسياسية لها “. ومن دون ذلك، يبقى الجدل أو النقاش بشأن الهوية الكردية، أو غيرها من الهويات، عقيماً، في إطار ما قبل الدولة المعاصرة، بمفاهيمها الدستورية والقانونية والإدارية والاجتماعية.
ويبدو أننا أحوج ما نكون لإعادة رسم الخريطة الإدارية السورية، التي تساعدنا على تحاشي اشتراط البعض لنصوص دستورية أو قانونية تشكل ألغاماً يمكنها أن تنفجر بأي لحظة. ولعلَّ مشروع اللامركزية الإدارية الجغرافية سيكون مساهماً في بناء مستقبل سورية الغد في إطار التعددية والديمقراطية، كما سيساهم في ازدهار البلاد اقتصادياً، وتماسكها كوحدة جغرافية تقطع السبيل أمام التقسيم والتشتت.
وفي هذا السياق فإنّ وحدة القوى الديمقراطية العربية والكردية ضرورية، لنيل حقوق كل مكوّنات الشعب السوري كاملة في مرحلة ما بعد الاستبداد، بدعم من جميع الأطياف الديمقراطية التي ستشترك في بناء النظام الجديد.