
يُعدّ رئيس حركة الناصريين المستقلين/ المرابطون”، إبراهيم قليلات، أحد أبرز الوجوه السياسية والشعبية؛ التي ارتبط اسمها بالعمل الوطني في لبنان؛ خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
ولد قليلات، في بيروت في أربعينيات القرن الماضي، في بيئة شعبية شكلت جزءًا من النسيج الاجتماعي للمدينة التي كانت آنذاك تغلي بالحراك القومي والسياسي، وبالتحولات الاجتماعية التي رافقت صعود المد القومي العربي وتفاعلات الصراع العربي الإسرائيلي.
تفتّح وعي قليلات في مرحلة الخمسينات والستينات، وهي مرحلة حاسمة في تاريخ المشرق العربي، مع بروز التيارات القومية والوحدوية، وتأثير ثورة 23 يوليو في مصر بقيادة جمال عبد الناصر، وتأميم قناة السويس عام 1956، والعدوان الثلاثي على مصر الذي أعقبه تصاعد المد القومي في الشارع العربي.
في هذا السياق، تَشكّل وعيه السياسي القومي، متأثرًا بالمناخ العام الذي جمع بين الكفاح ضد الاستعمار، والتطلع إلى الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية. كما تركت القضية الفلسطينية، أثرًا عميقًا في تكوينه، وأدرك أن الصراع مع العدو الصهيوني، لا ينفصل عن قضايا التحرر الوطني في العالم العربي، وأن فلسطين تمثل جوهر الهوية العربية الجامعة
شارك قليلات في ثورة 1958 التي اندلعت في لبنان، متأثرة بموجة المد القومي العربي وصعود عبد الناصر، وبالرفض الشعبي لحلف بغداد الذي رآه القوميون أداةً استعمارية تهدف إلى تطويق الحركة التحررية العربية. وانخرط في صفوف القوى الشعبية المؤيدة لعبد الناصر، وبرز من خلال شبابه في أحياء بيروت الغربية، كأحد الوجوه النشطة التي تعبر عن الوجدان العروبي لجيل بأكمله.
مع بداية السبعينات، برز إبراهيم قليلات، كزعيم شعبي من قلب بيروت، حيث أسس “حركة الناصريين المستقلين/ المرابطون”، التي سرعان ما تحولت إلى أحد أعمدة “الحركة الوطنية اللبنانية”. واتست حركة “المرابطون”، بخلفيتها القومية العربية الوحدوية، وبعلاقتها الوثيقة بالشارع الشعبي البيروتي، وبالتحامها مع النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومشاريعه التوسعية في المنطقة.
انخرط قليلات في “الحركة الوطنية اللبنانية” التي تشكلت عام 1969، وانطلقت فعلياً سنة 1973، على أساس برنامج مشترك، ينادي بإحداث إصلاحات سياسية واقتصادية جذرية، ويعلن بوضوح عروبة لبنان.
ضمت هذه الحركة، أحزاباً قومية ويسارية، أبرزها “الحزب التقدمي الاشتراكي”، بقيادة مؤسس “التقدمي” الراحل كمال جنبلاط، و”التنظيم الشعبي الناصري” بقيادة المناضل الناصري المعروف الراحل معروف سعد، والتنظيمات القومية العربية الناصرية والبعثية، إضافة إلى قوى مستقلة.
شكّل قليلات جزءًا أصيلًا من هذا التيار الوطني العروبي، وتميزت مشاركته بربط البعد الاجتماعي بالنضال الوطني، مؤمنًا بأن الدفاع عن عروبة لبنان واستقلاله لا ينفصل عن الدفاع عن العدالة والمساواة داخل المجتمع اللبناني.
ارتبط قليلات، بعلاقات وثيقة مع “منظمة التحرير الفلسطينية”، وقائدها الراحل ياسر عرفات أبو عمار)، وتعاونحركة “المرابطون” مع الفصائل الفلسطينية في العديد من المحطات النضالية، خصوصًا خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية.
رأى قليلات في المقاومة الفلسطينية، ركيزة أساسية للدفاع عن بيروت وعن لبنان في وجه العدوان الإسرائيلي، وأسهم في التنسيق الميداني بين القوى الوطنية اللبنانية والفصائل الفلسطينية، مؤكدًا وحدة المصير والمواجهة المشتركة
خلال الحرب الأهلية (1975–1990)،
كان لقليلات، دور بارز في قيادة المواجهة ضمن صفوف “الحركة الوطنية اللبنانية”، دفاعًا عن بيروت الغربية التي شكلت مركز الصمود الوطني والقومي. برز اسمه بشكل خاص في السنوات الأولى من الحرب، حيث كانت “المرابطون” من القوى الرئيسية التي أسهمت في الدفاع عن العاصمة بيروت، في وجه القوى الانعزالية، ووقفت إلى جانب المقاومة الفلسطينية. ورغم تعقيدات الحرب وتبدّل التحالفات، حافظ قليلات على خطه القومي العربي الواضح، ورفض الانزلاق إلى الصراعات الطائفية، مؤكدًا على وحدة الهدف الوطني.
عندما اجتاحت القوات “الإسرائيلية” لبنان عام 1982، وحاصرت بيروت، كان قليلات من بين القادة الذين تصدّوا للاجتياح. وشاركت قوات “المرابطون” في المعارك الدفاعية إلى جانب المقاومة الفلسطينية، وأسهمت في صمود العاصمة في وجه واحدة من أعتى الحملات العسكرية الإسرائيلية.
وقد أشارت تقارير إسرائيلية في ما بعد، منها ما ورد في مذكرات أرييل شارون، إلى اسم إبراهيم قليلات، كأحد أبرز القيادات الوطنية التي واجهت الاجتياح، ورفضت الخضوع أو التفاوض مع الاحتلال.
يُعدّ قليلات، الأيقونة الأبرز في مسيرة “الحركة الوطنية اللبنانية”، والوجه الذي جسّد التلاقي بين النضال الشعبي والعروبي في بيروت. فقد كان الرجل الواثق بلبنانيّته والعروبة معًا، والمؤسس التاريخي لـ”حركة الناصريين المستقلين – المرابطون”، التي شكّلت أحد أعمدة النضال الوطني في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
قاد قليلات، هذه الحركة في أحلك المراحل التي مرّ بها لبنان، فكانت “المرابطون”، في طليعة القوى التي خاضت معارك الشرف والكرامة دفاعًا عن عروبة لبنان ووحدته، وعن بيروت، بصفتها سيدة العواصم العربية، ورمز الصمود في وجه العدوان.
وخلال الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975، لعبت الحركة دورًا محوريًا في حماية النسيج الوطني ومواجهة المشاريع الانعزالية، ثم برز دورها مجددًا في عام 1982، حين تصدت للاجتياح الإسرائيلي إلى جانب فصائل الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وأسهمت في إجبار العدو على الانسحاب من بيروت، وحفظ كرامتها وتاريخها العربي المقاوم.
تميّزت علاقة قليلات مع سوريا بالتعقيد، إذ تداخل فيها البعد القومي مع التباينات السياسية التي رافقت الحرب الأهلية اللبنانية.
في بداياتها، كان ينظر إلى التدخل السوري، بوصفه دعمًا لمشروع الحركة الوطنية، إلا أن العلاقة شهدت توترات لاحقة، بسبب اختلاف المواقف حول إدارة الصراع الداخلي اللبناني، وتوازن القوى. ومع ذلك، ظلّ قليلات حريصًا على الخطاب القومي، ولم يتحوّل يومًا إلى خصم عدائي لسوريا، بل سعى إلى الحفاظ على المسافة الوطنية المستقلة من دون انخراط في الصدام المباشر، كما سعى إلى الحفاظ على المسافة الوطنية المستقلة، من دون انخراط في الصدام المباشر، مؤكدًا تمسّكه بخياره القومي العروبي المستقل.
وفي هذا الإطار، عمل قليلات على توحيد القوى الناصرية في لبنان، ضمن إطار تنظيمي يجمع بين البعد السياسي والعسكري. فقد أدرك منذ مطلع السبعينات أن تشتّت التيارات الناصرية بين مجموعات صغيرة وتنظيمات محلية، يحدّ من قدرتها على التأثير في الساحة الوطنية، ويضعف المشروع القومي الذي حمله جيل عبد الناصر.
بعد الاجتياح الإسرائيلي، وانسحاب المقاومة الفلسطينية من بيروت، واجهت “حركة المرابطون”، هجومًا من تحالف ضمّ “الحزب التقدمي الاشتراكي”، “حركة أمل” و”الحزب الشيوعي اللبناني”. وأدى هذا الهجوم إلى نفي إبراهيم قليلات إلى فرنسا، حيث بقي بعيدًا عن المشهد السياسي اللبناني، محافظًا على حياته وحياة أعضاء الحركة,
ظل قليلات، يحمل مشروعه العروبي والوطني حتى بعد مغادرته الساحة اللبنانية. رغم التعتيم اللاحق الذي رافق اسمه في الإعلام والسياسة، وبقي رمزًا من رموز المرحلة الوطنية التي جمعت بين النضال القومي والاجتماعي، وبين الدفاع عن بيروت كعاصمة للكرامة والمقاومة.
تمثل تجربة قليلات، نموذجًا فريدًا في التاريخ السياسي اللبناني الحديث، فهي تجسّد التحام الوعي القومي العربي، بالواقع الاجتماعي اللبناني في لحظة من أكثر لحظات المشرق العربي، اضطرابًا وتحوّلًا.
لا يمكن قراءة سيرة قليلات، بمعزل عن السياق العربي العام في خمسينات وستينات القرن العشرين، حين كان الانتماء القومي يتقدّم على الانتماءات الطائفية والمناطقية، وحين كانت بيروت؛ منارة للحركات التحررية والفكر التقدمي.
لقد تميّز قليلات، بقدرته على الجمع بين الانتماء الشعبي البيروتي، وبين الالتزام القومي العربي، فكان صوته معبّرًا عن الأحياء الشعبية في العاصمة التي حملت لواء العروبة والدفاع عن فلسطين.
بهذا المعنى، شكّل ظهوره السياسي امتدادًا طبيعيًا للمدّ الناصري ولحركة القوميين العرب، لكنه تجاوز الخطاب إلى ممارسة نضالية ميدانية، تجسّدت في تأسيس “حركة المرابطون”، التي كانت في جوهرها مشروعًا سياسيًا شعبيًا؛ يسعى الى تكريس فكرة العروبة المدنية في مواجهة الطائفية والانغلاق.
وأتاح له انخراطه في “الحركة الوطنية اللبنانية”، أن يكون جزءًا من التجربة الإصلاحية الوحيدة التي حاولت إعادة بناء الدولة اللبنانية على أسس مدنية عادلة، تعترف بعروبة لبنان وتكسر احتكار الطوائف للسلطة.
لذلك، فإن قليلات، وعلى الرغم من أنه لم يكن منخرطًا في شريحة ما يُسمّى النخب السياسية التقليدية، مثل أحد الوجوه الشعبية الوطنية التي جسّدت طموح الفئات المهمّشة إلى المشاركة في صياغة مصيرها.
في المقابل، تُظهر تجربته أيضًا مأساة المشروع الوطني اللبناني الذي اصطدم بتركيبة النظام الطائفي وبالتدخلات الإقليمية والدولية. فالحركة الوطنية التي آمن بها قليلات، والتي خاضت معارك الدفاع عن بيروت عام 1982، وجدت نفسها لاحقًا أمام واقع سياسي جديد أنهى زمن المقاومة المشتركة بين القوى اللبنانية والفلسطينية.
وقد مثّل خروج قليلات من بيروت، نهاية مرحلة تاريخية كاملة، لا تخصّه وحده بل تخصّ جيلًا كاملًا من المناضلين القوميين الذين حلموا بلبنان عربي، ديموقراطي عادل.
إن القيمة التاريخية لتجربة إبراهيم قليلات، تكمن في كونها مرآة لتحوّلات الوعي العربي في لبنان، من الحلم القومي الكبير إلى صدمة الانقسام والحرب، ثم إلى انحسار المشروع الوطني بعد الاجتياح الإسرائيلي. ورغم هذا التحول، ظلّ قليلات، متمسكًا بخياره الفكري والسياسي، وبفكرة أن العروبة ليست شعارًا بل انتماءً إنسانيًا وموقفًا أخلاقيًا من قضايا الحرية والعدالة.
بهذا المعنى، لا يُمكن النظر إلى قليلات، كشخصية عابرة في تاريخ لبنان، بل كأحد رموز الحقبة العروبية الوطنية التي سعت إلى بناء لبنان مختلف — لبنان منفتح على محيطه العربي، مقاوم للاحتلال، ومؤمن بالعدالة الاجتماعية.
إن استعادة سيرة إبراهيم قليلات، اليوم، ليست استحضارًا لماضٍ رومانسي، بل هي إضاءة على لحظة تاريخية، تماهى فيها الفكر والنضال، وانفتح فيها الوعي اللبناني على أفق عربي واسع، قبل أن تنكفئ البلاد مجددًا إلى حدودها الطائفية الضيقة.
المصدر: المدار نت






سيرة نضالية وطنية عروبية ناصرية لـ “رئيس حركة الناصريين المستقلين/ المرابطون”، “إبراهيم قليلات” ، أحد أبرز الوجوه السياسية والشعبية؛ التي ارتبط اسمها بالعمل الوطني في لبنان؛ خلال النصف الثاني من القرن العشرين. إن استعادة سيرته هي لإضاءة على لحظة تاريخية، تماهى فيها الفكر والنضال، وانفتح فيها الوعي اللبناني على أفق عربي واسع ,