جبل ترامب وَلَد أعجوبة غريبة

بسام مقداد

تكاد النصوص التي تصدت لشرح خطة ترامب والتعليق عليها، تجمع على أن الضجيج الذي أحاطه ترامب بالخطة، على أهميتها، كان أكبر بكثير مما هي في الواقع. وعلى غرار قوله “أعطوني يوماً واحداً لأصالح روسيا وأوكرانيا”، قدم للخطة قبل إعلانها بالقول إن الشرق الأوسط سيشهد قريباً “حدثاً عظيماً” لم يكن ليتوقعه. ومع أن العالم أصبح معتاداً على مثل هذه الوعود من ترامب، إلا أنه حبس أنفاسه بانتظار “الحدث العظيم” الذي توقع منه أن يشكل نقطة مفصلية في إنهاء الحرب والمجزرة المتواصلة في غزة.

كل شيء كان متعجلاً في الخطة، على غرار القول إذا وافق الطرفان على هذا الاقتراح “تتوقف الحرب فوراً والجيش الإسرائيلي يسحب القوات …”. أو التأكيد بأنه بعد إعلان الموافقة الإسرائيلية على هذه الاتفاقية “ستتم إعادة الرهائن الإسرائيليين الموتى منهم والأحياء” خلال 72 ساعة. وقد دفع “سوء الظن” عند البعض للافتراض بأن الاستعجال (وليس التسرع) في الإعلان عن الخطة قد فرضه قرب إنتهاء موعد تقديم الترشيحات لجائزة نوبل للسلام في 10 الجاري، الجائزة التي يرتهن بها الكثير من خطوات ترامب.

لكن، ومع كل هذا الاستعجال والكلام الكبير عن الخطة، رحب العالم بها واعتبرها بصيص أمل في وضع نهاية للفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وتتوسع بها مع كل يوم وساعة تمر. ومع كل ما يحيط من إلتباس في الموافقة الإسرائيلية، يحبس العالم أنفاسه بانتظار موافقة حماس الصريحة. وقد انقضت الأيام الثلاثة أو الأربعة التي منحها ترامب لحماس لإعلان موافقتها الصريحة، إلا أن حماس ما زالت تتشاور مع المنظمات الفلسطينية الأخرى، وتنقب في الإلتباسات الكثيرة في نصوص الخطة وغموضها. وهي تدرك ولا شك بأن ليس استعجال ترامب وحده ما يحرمها “ترف” الوقت، بل دماء الفلسطينيين التي تولغ بها الوحشية الإسرائيلية في كل لحظة تمر. هذه الوحشية التي تجعل العالم يقف على رجليه شاجباً ومديناً، ويتعجل موافقة حماس لحقن ما يمكن من دماء الفلسطينيين وتخفيض المزيد من القصف والتدمير للقليل المتبقي من غزة.

الجميع يتفق بأن ما يسميه ترامب “خطة” هو إطار، مجموعة مبادئ تمت صياغتها بالكثير من الغموض وتعدد احتمالات تفسيرها، والتي تحتاج للكثير من التوضيح وجلاء المحتوى الفعلي. وإذا كان لدى العالم الكثير من الوقت لجلاء غموض نص ترامب وإدانة جرائم إسرائيل في غزة، فليس لدى حماس الوقت الآن لجلاء غموض البنود المفصلية المتعلقة بها ذاتياً وباستمرارية وجودها القيادي أو السياسي في غزة. وسواء سنحت الفرصة لاحقاً عبر المفاوضات أو سواها أم لم تسنح لحماس لجلاء غموض النصوص وتدقيقها، لن يغفر الدم الفلسطيني لها تأجيل الموافقة الصريحة على اقتراح ترامب، وليس “نعم، ولكن”. ويرى الإعلام أن صيغة الرفض الأخيرة هذه لم تعد متاحة لحماس، بل ستكون الهدية التي يمني النفس بها نتنياهو. وهو بحاجة إليها الآن أكثر بكثير من الماضي، خصوصاً لمواجهة الاتهام الداخلي له بأنه ذهب لزيارة ترامب وهو تشرشل، وعاد من عنده وهو تشمبرلين.

إضافة إلى إجماع الإعلام  على أن رد حماس على خطة ترامب، سلباً أو إيجاباً، يرتبط به تحريك الخطة من نقطة الجمود التي تراوح عندها في الأيام التي تلت إعلانها. ويرفض ترامب إطالة مدة هذا الجمود إلى أمد طويل ترغب به حماس، ولذلك مدد المهلة المتاحة أمام حماس حتى مساء الأحد، وبعدها “سيكون ما لم تشهده حماس حتى الآن”. وخطوة ترامب هذه جعلت حماس بمواجهته مباشرة، وحيدت إسرائيل مؤقتاً.

معظم مواقع الإعلام استعرض بنود خطة ترامب، وتوقف مستغرباً مدى الغموض وعدم الوضوح الذي يلف حميع بنود الخطة. واعتبر أن عدم الوضوح مقصود، ويحتمل التفسيرات المختلفة للأطراف المعنية. ويرى البعض أن الغموض والإلتباس الذي يعتري بنود الخطة، قد تمت المبالغة فيه، مما أنتج خطة غريبة يفسرها كل طرف بأنها معه وضده في الوقت عينه.

ومع ذلك لم يقتصد ترامب في كيل المديح والثناء على الخطة، التي رأى أنها لن توقف فقط الحرب على غزة، بل ستحل “السلام الأبدي” في الشرق الأوسط، رغم أنها مرت مرور الكرام على ذكر الدولة الفلسطينية، الشرط الرئيسي للاستقرار في المنطقة حالياً قبل أن يحل فيها “السلام الأبدي” على طريقة ترامب مع نتنياهو.

بعض الإعلام توقف عند المفارقة بين الغموض المتعمد في بنود الخطة ومبالغات ترامب في تقديمها.

موقع الخدمة الروسية في BBC نشر في 30 المنصرم ترجمة لما كتبه مراسل الشبكة الأم في الخارجية الأميركية توم باتمان (Tom Bateman)  في استعراضه لخطة ترامب.

استهل المراسل نصه بالتوقف عند مبالغات ترامب في تقديم الخطة، وقال إن ترامب في إعلانه عن خطته لوقف الحرب في غزة، وصف ما يجري بأنه أحد أعظم الأيام في تاريخ الحضارة، وهو اليوم الذي قد يُحل “السلام الأبدي في الشرق الأوسط”. ويذكّر المراسل بأن هذه مبالغة معتادة للرئيس ترامب، لكن الخطة التي اقترحها خلال اجتماعه مع نتنياهو، تبقى خطة مهمة في العملية الدبلوماسية، وإن كانت دون مستوى مبالغاته.

ورأى المراسل أن الخطة تشير إلى تحوّل في موقف البيت الأبيض من مستقبل غزة بعد انتهاء الحرب. وهي تشير إلى ممارسة ضغط أكبر على نتنياهو مما مارسته واشنطن سابقًا لإقناعه بالموافقة على الصفقة. ورأى أن إمكانية تنفيذ الخطة في الواقع تعتمد على ما إذا كانت إسرائيل وقيادة حماس تعتبران أن نهاية الحرب هي لصالحهما أكثر من مواصلتها.

ينفي المراسل صفة الخطة عن الاقتراح الأميركي، ويصفها بأنها اتفاقية إطار يجب أن تعطي دفعاً للمفاوضات. ويرجح أن يستغرق الأمر أسابيع عديدة أخرى من العمل المضني، إن لم يكن فترة أطول، لتتحول الاتفاقية الإطار هذه  إلى أي شيء يشبه إلى حد ما ما وعد به ترامب: إنهاء الحرب كلياً.

موقع zahav الإسرائيلي الناطق بالروسية نقل في 30 المنصرم مدونة للكاتب الإسرائيلي رامي يودوفين (Rami Yudovin) تحدث فيها بسخرية لاذعة عن خطة ترامب.

بعد أن يعبر الكاتب عن دهشة لاذعة شديدة من الوعود الخيالية التي يفترض ان الخطة تتضمنها يقول: يا إلهي، هذا رائع! غزة ستصبح سويسرا؟ ديزني لاند الشهداء؟ ويضيف قائلاً إن جميع بنود الخطة كُتبت كما في الحكاية، إذ الجميع يبقى على قيد الحياة وينعم بالسعادة. لكن أمراً واحد يثير القلق: وماذا لو رفض الشرير الرئيسي اتباع السيناريو المرسوم؟

يواصل الكاتب سخريته مما جاء في الخطة من وعود ومطالب من حماس على وجه الخصوص. ويرى أن الوعد بإعادة الرهائن الإسرائيليين خلال 72 ساعة هو واحد من وعود ترامب المعهودة، مثل قوله “أعطوني يوماُ واحداً وأصالح روسيا مع أوكرانيا”. وها هو اليوم قد مضى، وتبين أن الأمر يتطلب وقتاً “أكثر بقليل”.

لاحقاً يعبر الكاتب بأسلوبه الساخر عينه عن الشكوك التي تثيرها بنود الخطة لدى الإسرائيليين. ويسأل الإسرائيليين ما إن كانوا يتصورون القوات الدولية التي ستتولى حفظ الأمن في غزة، ويقول بأنهم يشبهون قوات الأمم المتحدة، “لكن أفضل بقليل”. ويعبر عن مخاوف الإسرائيليين من أن يتسلل “رفاق حماس” إلى هذه القوات التي تتشكل من قوات عربية.

ملاحظة: بعد الانتهاء من إعداد هذا النص في وقت متأخر من ليل الجمعة السبت، انتشر نبأ رد حماس عن استعدادها لإطلاق جميع الرهائن، ومن ثم ترحيب ترامب بالرد واعتباره بداية نهاية الحرب في غزة. واختلف الخبراء على الشاشات العربية بين اعتبار رد حماس “نعم، ولكن” أو “لا، ولكن”، إلى ان حسم ترامب النقاش.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى