
فيما يمكن فهم مبدأ “النكاية” السياسية من جانب أنصار نظام الأسد البائد، وبعض الأصوات المعارضة شديدة الحدّية حيال “العهد الجديد”، عبر احتفائها بتمديد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لحالة الطوارئ الوطنية المتعلقة بسوريا، قبل أيام، نجد على الضفة الأخرى، تفسيرات مبتورة، حاولت جاهدةً حصر المستهدَفين من هذا الإجراء بـ”فلول الأسد”. والنتيجة، غياب فهم واضح لدلالات الإجراء الأميركي الأخير، وما سبقه من إجراءات مرتبطة به، خلال الأشهر الثلاثة الفائتة.
خصوم “العهد الجديد” في سوريا، كانوا قد تورطوا بمحاولة “فهلوية”، قبل أسبوع، بالترويج لخبر مفاده إزالة أسماء بارزة في نظام الأسد من لوائح العقوبات، عبر تداول مقتطفات من قرارات أميركية بهذا الصدد، لا تحتوي ترويسة أو تاريخاً. وقد تجاهل هؤلاء “الخصوم” التصريح الوارد في نص إعلان مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية، قبل نحو أسبوع، والذي قال إنه عدّل لوائح العقوبات الخاصة بسوريا، ليصبح عنوانها “لوائح عقوبات تعزيز المساءلة عن الأسد وتحقيق الاستقرار الإقليمي”. كذلك تجاهل “الخصوم” بيانات الخزانة الأميركية والقرارات الصادرة عنها بخصوص سوريا، منذ نهاية شهر حزيران الفائت، والتي أوضحت في أكثر من مكان، أن أسماء المعاقبين من نظام الأسد البائد، نُقلت من لوائح العقوبات المرتبطة بالأوامر التنفيذية الصادرة بموجب حالة الطوارئ القديمة المُعتمدة منذ عام 2004، لتُوضع بدلاً من ذلك في إطار لوائح عقوبات أخرى مرتبطة بحالة الطوارئ الجديدة التي أعلنها ترامب عام 2019، والتي تم توسيعها بموجب الأمر التنفيذي 13894، للسماح باستمرار العقوبات ضد بشار الأسد وشركائه، إلى جانب أطراف أخرى. مع استمرار إبقاء أسماء (بشار وماهر وأسماء الأسد)، ضمن لائحة الأشخاص المحظورين أميركياً، والمعروفة بالـ”SDN”.
أما الغاية مما سبق، فقد تم توضيحه في بيان وزارة الخزانة الأميركية، قبل نحو أسبوع، حينما أعلنت بشكل جلّي، أن منطق العقوبات الأميركية حيال سوريا شهد تحوّلاً جذرياً، من معاقبة “الدولة” وكياناتها والشخصيات المرتبطة بها بمجملها، بوصفها أداة لنظام الأسد السابق، لتتحول إلى منطق جديد، يعتمد مبدأ العقوبات الفردية بحق شخصيات أو كيانات محددة. وهو تحوّل نوعي، من مبدأ العقوبات الشاملة إلى مبدأ العقوبات الانتقائية، بصورة تخفف من الأثر السلبي المنعكس على مجمل السوريين، لكنها لا تلغيه بالمطلق.
وعند هذه النقطة، ننتقل إلى ضفة “أنصار العهد الجديد”، الذين حاول بعضهم رد فعل “النكاية” على “أنصار النظام البائد”، عبر نفي الجانب السلبي بالمطلق، من القرار الأميركي الأخير بتمديد حالة الطوارئ الخاصة بسوريا. وكان من بين هذه الأصوات، أعضاء فيما يُعرف بـ”المجلس السوري الأميركي”، الناشط منذ أشهر في دعم السلطة الحالية بدمشق، عبر أروقة صنع القرار التشريعي والتنفيذي في واشنطن. إذ ركّز هؤلاء على أن تمديد ترامب لحالة الطوارئ الخاصة بسوريا عاماً إضافياً، هدفه توفير الأساس القانوني لإبقاء العقوبات على الأسد وأزلامه. وهو كلام صحيح لكنه مبتور. إذ، وبمراجعة نص الوثيقة التي تضمنت قرار تمديد حالة الطوارئ، والصادرة عن المكتب التنفيذي لترامب، كانت الإشارة واضحة إلى أن هدف التمديد، هو توفير أساس قانوني لاتخاذ خطوات إضافية بهدف ضمان مساءلة مرتكبي جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان، إلى جانب شبكات الإتجار بالمخدرات، ومسؤولي النظام البائد. وهنا نجد ثلاثة أطراف مستهدفة، بسيف العقوبات الذي تلوّح به واشنطن مجدداً حيال سوريا. طرفان منهما مرتبطان كليةً أو جزئياً بنظام الأسد. والثالث، يفتح الباب واسعاً لإمكانية استهداف شخصيات أو كيانات مرتبطة بـ”العهد الجديد”، تحت بند “مساءلة مرتكبي جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان”.
وما بين ضفتَي “النكاية السورية”، كانت هناك أصوات وسطية، قدّمت قراءات موضوعية، لكنها كانت الأقل زخماً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كالعادة. فالأصوات “الحدَّية”، التي تزخر بـ”الشعبوية”، والقراءات “المبتورة”، والتي تتضمن “بشائر” بـ”انتصارات” خُلبية، كانت الأكثر تداولاً وانتشاراً، حتى بات من الصعب، على غالبية السوريين -من غير المنخرطين بأفعال “النكاية” المتبادلة- أن يفهموا: هل رُفعت العقوبات الأميركية أم لم تُرفع؟
باختصار، وفّر تمديد حالة الطوارئ أساساً قانونياً يتيح لترامب -لعام آخر- تمديد العقوبات الحالية على مهربي المخدرات ومجرمي الحرب من نظام الأسد، مع إمكانية فرض عقوبات على أي شخصية أو كيان يرتبط بالحاكمين الجدد في دمشق، إن تورطوا في جرائم حرب أو انتهاكات لحقوق الإنسان. أي أن سيف العقوبات سيبقى مسلّطاً، بحق السلطة الراهنة لا بحق مسؤولي النظام السابق فقط. وإن كان بمنطق “فردي”، وليس بمنطق العقوبات الشاملة، لمجمل المنظومة. هذا من جانب العقوبات المرتبطة بالسلطة التنفيذية في واشنطن. فيما يبقى مصير “قانون قيصر” معلّقاً بالخاتمة المنتظرة للتسويات الجارية في أوساط السلطة التشريعية الأميركية، حتى نهاية العام الجاري. مع الإشارة إلى أن هذه التسويات ستكون مرتبطة بالتزامات، على السلطة الحالية بدمشق الوفاء بها، وفق ما أعلنه “المجلس السوري الأميركي”، قبل نحو أسبوعين. مع الإبقاء على إمكانية إعادة فرض “عقوبات قيصر” في حال عدم الالتزام. ومن أبرز هذه الالتزامات، “أمن الأقليات” وتمثيلهم. ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بحق “الأقليات الدينية” في “العهد الجديد”.
وكما أشرنا، فإن التحوّل الجديد في منطق العقوبات الأميركية حيال سوريا، سيخفف من أثرها السلبي على عموم السوريين، اقتصادياً. لكنه لن يلغيه. إذ ستبقى سوريا، على صعيد علاقاتها مع قوة كبرى بحجم الولايات المتحدة، في حالة عدم يقين، بنظر أي مستثمر أجنبي يريد العمل بها. فالعقوبات الشاملة لم تعد قائمة. لكنها قد تعود بموجب مراجعة سنوية. ناهيك عن إمكانية فرض عقوبات فردية على شخصيات محسوبة على السلطة الحالية. مما يجعل الاستثمار في سوريا محفوفاً بدرجة أعلى من المخاطرة، مقارنة ببلدان أخرى. وإن كان يمكن الإقرار بأن درجة المخاطرة تلك أصبحت أقل بكثير، مقارنة بما كانت عليه في عهد النظام البائد.
المصدر: المدن