
تكشف الدراسة الميدانية التي أعدّها المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة حول واقع القوى الديمقراطية في سورية صورةً مركّبة للأزمة التي تعيشها في الوقت الحاضر، لا تختزل الأسباب في استبداد النظام السابق فحسب، بل تتشابك فيها عوامل تاريخية وبنيوية واجتماعية وثقافية.
إرث هشّ لتجربة ديمقراطية قصيرة
منذ الاستقلال عام 1946، بدت التجربة الديمقراطية السورية هشّة وقصيرة العمر؛ إذ سرعان ما أطاحت بها الانقلابات العسكرية، ثم سيطرة حزب البعث عام 1963، وصولاً إلى الحقبة الأسدية التي أحكمت الأجهزة الأمنية خلالها قبضتها على الحياة العامة في سورية. هذا المسار الطويل من الاستبداد انتهى بانفجار الثورة عام 2011، والتي فتحت نافذة أمل لبناء حياة سياسية جديدة. غير أنّ القوى الديمقراطية لم تتمكّن من استثمار تلك اللحظة التاريخية لتشكيل بديل ديمقراطي سياسي فاعل.
أزمة أعمق من الاستبداد
تشير نتائج الدراسة، التي شملت 174 من النخب السياسية والثقافية إضافة إلى 15 مقابلة معمّقة، إلى أنّ 75% من المشاركين يرون القوى الديمقراطية ضعيفة التأثير في المشهد السوري. كما اعتبر 61% أنّ غياب الحاضنة الشعبية هو العائق الأكبر أمام تبلورها، مقابل 18% فقط رأوا أن القمع الأمني للنظام السابق هو السبب الرئيس في ضعفها. هذه النتائج تعكس حقيقة أنّ الأزمة أعمق من الاستبداد السياسي، وأنها ترتبط ببنية التنظيم والثقافة السياسية.
إنّ الأزمة السورية ديمقراطية بقدر ما هي سياسية. فحتى مع اتساع الهامش السياسي، سيبقى ضعف البنية البرامجية للأحزاب عائقاً أمام أي تحوّل حقيقي.
نخب منقسمة وخطاب بعيد عن الشارع
الأحزاب التي رفعت شعارات الحرية بقيت نخبويّة، تعاني انقسامات أيديولوجية وشخصية (49%)، وتتبنى خطابات عالية السقف لكنها بعيدة عن هموم الناس. وحتى مع اندلاع الثورة، انشغلت هذه القوى بصراعاتها الداخلية وبحسابات الخارج، بدل الانخراط في صياغة مشروع وطني جامع. النتيجة كانت فجوة واسعة مع الشارع السوري، إذ لم تتجاوز نسبة من رأوا لدى هذه القوى رؤية سياسية واضحة 20% فقط، من دون قاعدة شعبية أو تنظيم فاعل.
مؤشرات إيجابية وفرص للتجديد
مع ذلك، لم يخلُ المشهد من مؤشرات إيجابية. إذ أعرب 95% من المستطلَعين عن استعدادهم للمشاركة في جهود تفعيل القوى الديمقراطية مستقبلاً، فيما أبدى ثلاثة أرباعهم تأييدهم لفكرة قطب ديمقراطي موحّد، شرط توافر بيئة شفافة وضمانات للمشاركة. كما فضّل 89% نموذج تحالف ديمقراطي مرن يحترم استقلالية أطرافه على خيار الاندماج في حزب واحد. هذه النتائج تشير إلى وعي متزايد بأنّ الوحدة لا تعني الذوبان، وأنّ التعددية قد تكون مصدر قوة لا ضعف.
شروط بناء قطب ديمقراطي فاعل
لكن توحيد القوى الديمقراطية، كما تُظهر الدراسة، ليس مهمة تنظيمية تقنية بحتة، بل مشروع تاريخي مشروط بجملة من المتطلبات. أولها تحرير الحقل السياسي من هيمنة الثقافة الاستبدادية والإقصائية، وهو ما لا يزال بعيد المنال رغم كل التغيرات السياسية في المشهد السوري. ثانيها إعادة بناء الطبقة الوسطى التي تآكلت بفعل السياسات الاقتصادية للبعث والحرب التي تلت ثورة 2011، إذ تشكّل هذه الطبقة الحامل الاجتماعي الطبيعي للديمقراطية. وثالثها تجديد النخب السورية وتجاوز النخبوية التقليدية، من خلال أحزاب برامجية تركز على الكيف لا الكم، وعلى قضايا الناس اليومية لا على الشعارات الأيديولوجية الفضفاضة.
خريطة طريق مقترحة
توصيات الدراسة تذهب أبعد من التشخيص، لتطرح خريطة طريق واقعية: صياغة ميثاق وطني ديمقراطي يحدد المبادئ المشتركة (الحرية، التعددية، حقوق الإنسان)، تأسيس تحالف ائتلافي واسع غير مركزي، وإطلاق حملة تواصل رقمي وإعلامي تستهدف استعادة ثقة السوريين. كما تشدد على ضرورة سن قانون عصري للأحزاب السياسية، وإصلاح دستوري يضمن فصل السلطات واستقلال القضاء، وتمكين المجتمع المدني بوصفه صلة الوصل بين الدولة والمجتمع.
في ضوء ذلك، يمكن القول إنّ الأزمة السورية ديمقراطية بقدر ما هي سياسية. فحتى مع اتساع الهامش السياسي، سيبقى ضعف البنية البرامجية للأحزاب عائقاً أمام أي تحوّل حقيقي. المطلوب ليس مجرد توحيد شعارات أو منصات، بل إعادة تعريف العمل السياسي: من صراع على السلطة إلى منافسة على البرامج والحلول، ومن خطاب للنخب إلى تفاعل مباشر مع المواطنين داخل سورية وخارجها.
سيناريوهات المستقبل: بين الأمل والشك
أما عن مستقبل القوى الديمقراطية، فقد رجّح 47% من المشاركين إمكانية التوحيد التدريجي، مقابل 33% يرون استمرار التشرذم، في حين توقّع أقل من 20% بروز قيادة جديدة قادرة على كسر الجمود. هذا التباين بين الأمل والشك يعكس بدقة المشهد السوري الراهن: إمكان التوحيد قائم، لكنه مرهون ببيئة سياسية جديدة وإرادة جماعية تتجاوز أخطاء الماضي.
إنّ ما تقدمه هذه الدراسة ليس مجرد أرقام، بل رسالة واضحة: الطريق إلى الديمقراطية في سورية يمر عبر المجتمع نفسه. فإذا نجحت القوى الديمقراطية في تحويل استعداد السوريين إلى فعل منظم، وفي بناء تحالفات مرنة تستجيب للتنوع السوري، فإنها قد تفتح نافذة جديدة أمام مشروع وطني جامع. أما إذا بقيت أسيرة انقساماتها ونخبويتها، فإنها ستظل تدور في هامش السياسة، تاركة الساحة لقوى العسكر والتطرّف.
إنّ ما يحتاجه السوريون اليوم ليس مزيداً من البيانات السياسية ولا سباقاً على المقاعد البرلمانية، بل إعادة تعريف العمل السياسي نفسه: من صراع على السلطة إلى منافسة على البرامج والحلول.
صراع مع الذات قبل الاستبداد
في النهاية، تكشف الدراسة أنّ استعادة الديمقراطية في سورية ليست مهمة جيل واحد، بل مشروع تاريخي يحتاج إلى صبر وإبداع سياسي. لكن الشرط الأول لأي انطلاقة حقيقية هو الاعتراف بأنّ الأزمة لم تكن يوماً مجرد صراع مع نظام استبدادي، بل هي أيضاً صراع مع الذات: مع ثقافة سياسية إقصائية، وأحزاب فقدت صلتها بمجتمعها، ونخب لم تتعلم بعد كيف تحوّل رؤاها إلى قوة اجتماعية. وبينما قد يطول الطريق، فإنّ الإقرار بهذه الحقيقة هو الخطوة الأولى نحو بناء ديمقراطية سورية حقيقية، قادرة على الصمود أمام التحديات المحلية والدولية، ومؤهلة لإعادة وصل ما انقطع بين السياسة والمجتمع.
إنّ ما يحتاجه السوريون اليوم ليس مزيداً من البيانات السياسية ولا سباقاً على المقاعد البرلمانية، بل إعادة تعريف العمل السياسي نفسه: من صراع على السلطة إلى منافسة على البرامج والحلول، ومن خطاب للنخب إلى تفاعل يومي مع هموم الناس في الداخل والشتات. فالديمقراطية ليست شعاراً يُرفع، بل شبكة من المؤسسات والعلاقات المجتمعية التي تمنح السياسة معناها.
قد يبدو الطريق طويلاً، لكن الاعتراف بهذه الحقيقة هو الخطوة الأولى. فالتغيير يبدأ من إدراك أن الديمقراطية لن تأتي هدية من الخارج، ولا ستولد تلقائياً بمجرد سقوط النظام السابق. إنها مشروع وطني طويل الأمد، يتطلب صبراً وإبداعاً، وقبل كل شيء شجاعة في مواجهة الذات. وإذا نجحت القوى الديمقراطية في تحويل استعداد الناس إلى فعل منظم، فإنها ستفتح الباب لولادة سورية جديدة: دولة مواطنة وقانون، لا دولة شعارات أو سلاح.
المصدر: تلفزيون سوريا



هل الأزمة السورية ديمقراطية بقدر ما هي سياسية ؟. إن اتساع الهامش السياسي أمام الأحزاب لن يحقق تجاوزها لأزمتها لأن ضعف البنية البرامجية للأحزاب هو العائق أمام أي تحوّل حقيقي، لأن العمل السياسي ليس صراع على السلطة بل يجب ان يكون منافسة على البرامج والحلول لمشاكل المجتمع ، دراسة أكاديمية بحثية تستحق التمعن.