
بعيداً عن الأبعاد الرمزية (التاريخية والمعنوية) لزيارة الرئيس أحمد الشرع إلى نيويورك (22-24 أيلول) لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن المؤمَّل من تلك الزيارة يمتد ليطول مسائل أخرى ذات صلة بالسياسة والاقتصاد واستكمال الجهود لرفع العقوبات.
إلّا أن كثيراً من السوريين أيضاً يرون أن هذه الزيارة سيكون لها انعكاسات واضحة على أهم ملفّين داخليين في الوقت الحاضر؛ يتمثل الأول بالتداعيات المستمرة لما جرى في السويداء منذ الثالث عشر من تموز الماضي، في حين يتمثّل الثاني بتعثّر المسار التفاوضي بين الحكومة المركزية في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية.
السويداء بين الحل الوطني والتدخلات الخارجية
يمكن التأكيد على أن الوثيقة التي أنجزتها التفاهمات الثلاثية (سوريا والأردن والولايات المتحدة الأميركية) في منتصف شهر أيلول الجاري، والتي سُمّيت “خارطة الطريق”، قد حظيت بتأييد واسع عربياً ودولياً، من جهة شموليتها على أبرز المطالب التي كانت تنادي بها القوى المسيطرة في مدينة السويداء.
بالنظر إلى عدم موضوعية تلك المطالب وطابعها التعجيزي الذي يراد منه الرفض لمجرّد الرفض، فإن الذهاب إلى أن رفض المبادرة الثلاثية لا ينبثق من رأي محلّي يجسّد رغبة شعبية عامة لدى أهالي السويداء، بقدر ما يجسّد امتثال القوى المتحكّمة لجعل ملف السويداء مرهوناً بأجندات خارجية..
ولعل أبرزها: سحب المقاتلين المدنيين خارج حدود السويداء، وتشكيل مجلس محلي تنفيذي من أبناء المحافظة، وإنشاء قوة شرطية لحفظ الأمن ترأسها شخصية من مدينة السويداء ذاتها، ولعل الأهم من ذلك هو استجابة الحكومة السورية بالموافقة على دخول لجنة تحقيق دولية تتولّى تقصّي الحقائق بخصوص أحداث السويداء في منتصف تموز الماضي.
إلّا أن حماس الرأي العام حيال خارطة الطريق الجديدة قوبل برفض من جانب السلطات المحلية في السويداء، عبر بيان أصدرته ما تُدعى “اللجنة القانونية” تؤكّد فيه عدم ثقتها بالقضاء السوري لمحاسبة من يثبت تورطه في ارتكاب جرائم بحق المدنيين، فضلاً عن استمرار المرجعية الدينية المتمثلة بحكمت الهجري بالمطالبة بحق تقرير المصير.
وبالنظر إلى عدم موضوعية تلك المطالب وطابعها التعجيزي الذي يراد منه الرفض لمجرّد الرفض، فإن الذهاب إلى أن رفض المبادرة الثلاثية لا ينبثق من رأي محلّي يجسّد رغبة شعبية عامة لدى أهالي السويداء، بقدر ما يجسّد امتثال القوى المتحكّمة لجعل ملف السويداء مرهوناً بأجندات خارجية، وبتعبير أدقّ: تحويل مسألة السويداء إلى ورقة بيد إسرائيل لتكون أداة ضغط إضافية يستخدمها نتنياهو في مسار التفاهمات الأمنية مع حكومة دمشق.
إذ سبق أن أشارت مصادر عديدة إلى إخفاق الطرفين السوري والإسرائيلي في التوصّل إلى اتفاق أمني كان من المفترض أن يتم التوقيع عليه على هامش اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك.
ولعلّ أبرز بواعث هذا الإخفاق هو رفض الحكومة السورية لمطلب إسرائيلي يقضي ببقاء ممر مفتوح بين الجولان المحتل ومدينة السويداء بهدف الإمداد الإنساني، وفقاً للجانب الإسرائيلي، في حين ترى الحكومة السورية في هذا المطلب مساساً بالسيادة وتدخلاً في الشأن الداخلي السوري.
ولعل السؤال الأهم: هل ستستمر القوى المسيطرة في السويداء برفضها لأي تسوية مع حكومة دمشق، في حين إذا تم تجاوز نقاط الخلاف السوري-الإسرائيلي وتوصل الطرفان إلى تفاهمات أمنية؟
استعصاء سياسي أم انتظار لا بدّ منه؟
ومن جنوبي البلاد إلى شمالها الشرقي، حيث تسعى الحكومة السورية منذ التوقيع على اتفاق العاشر من آذار بين الرئيس الشرع والقائد العسكري لـ”قسد” مظلوم عبدي، إلى تحقيق اختراق فعلي في المسار التفاوضي مع “قسد”.
وعلى الرغم من كل اللقاءات الجارية بين الطرفين، فلم يزل مسار التفاوض يراوح في نقطة صفرية، ولعل ما هو ملاحظ أن لغة الخطاب بين الجانبين، والتي شهدت مستوًى من النعومة في الأشهر الثلاثة التي تلت اتفاق آذار، إلّا أنها سرعان ما استعادت خشونتها المعتادة، بدءاً من مؤتمر القامشلي الذي انعقد في نيسان الماضي، وتضمن بيانه الختامي ما يمكن اعتباره انقلاباً على اتفاق آذار من وجهة نظر الحكومة، مروراً بلقاء الحسكة الذي أعقب أحداث السويداء، والذي حمل رسالة استفزازية لحكومة دمشق من خلال حضور حكمت الهجري وغزال غزال للقاء المذكور، الأمر الذي فهمت منه الحكومة بدايةً لتحالف الأطراف المناوئة لها برعاية “قسد”.
أما على مستوى الخطاب، فلم تعد مسائل الخلاف بين الطرفين تتجسّد في طريقة أو آليات دمج قوات قسد في وزارة الدفاع السورية واحتفاظها بهيكليتها الإدارية وكذلك احتفاظها بتموضعها الجغرافي فحسب، بل بات مطلب “اللامركزية” هو اللازمة التي لا تفارق أحاديث وتصريحات قادة “قسد”، إضافة إلى المطالبة بإعادة صياغة للإعلان الدستوري الذي اعتمدته الحكومة لتجاهله حقوق الكُرد كمكوّن قومي له حقوق ينبغي الوقوف عندها.
واقع الحال يؤكّد أن مصطلح “اللامركزية”، ولكثرة تداوله والتمسّك به من جانب “قسد” على وجه التحديد، بات يبدو للآخرين وكأنّه لغز، بينما يعرف الجميع ماذا يعني، إذ في الوقت الذي تؤكّد قيادات “قسد” أن اللامركزية التي تطالب بتحقيقها لا تعني الانفصال عن الدولة السورية، وذلك في سياق الردّ على توجسات الحكومة ورفضها لأي مشروع من شأنه أن يفضي إلى تقسيم البلاد.
إلّا أن قسد تدرك -ضمناً أو جهراً- أن اللامركزية السياسية أو أي مشروع فدرالي هو بالفعل لا يعني الانفصال المباشر، بل يُبقي على الارتباط بالدولة، لكن قوّة هذا الارتباط تبقى مرهونة بيد “قسد”، فإن شاءت تعزيز هذا الارتباط يمكنها ذلك، لكن إن شاءت الانتقال إلى خطوة لاحقة، وتحديداً الانفصال التام عن الدولة السورية، فإن النظام اللامركزي يوفّر لها مقوّمات ما ترمي إليه.
لا شك أنّ زيارة الرئيس الشرع إلى نيويورك وإلقاءه كلمة على منبر الجمعية العامة، فضلاً عن حراكه السياسي على هامش اجتماعات نيويورك، لم تُجسّد مبعث اطمئنان لـ”قسد”، إلّا أنها في الوقت ذاته لا تحمل نتائج مباشرة من شأنها تضييق الخيارات أمام حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)..
وبالتالي فإن الخلاف بين “قسد” وحكومة دمشق حول مفهوم “اللامركزية” يتقوّم على أسس عدم الثقة المتبادلة بين الطرفين بالدرجة الأولى؛ إذ في الوقت الذي تدّعي فيه “قسد” أن النظام المركزي في الحكم إنما يؤدي إلى “طمس الهويات المحلية والحدّ من حرية العمل السياسي والتنمية” -وفقاً لمسؤولة الشؤون الخارجية في الإدارة الذاتية إلهام أحمد، في تصريح لها لمجلة “المجلة” بتاريخ 21 من أيلول الجاري- فإنّ الحكومة السورية، إضافة إلى رأي عام عربي ودولي، ترى أن حالة الاستقرار الأمني والاقتصادي في سوريا لا تحتمل المغامرة بمشاريع، إن لم تكن تهدف إلى الانفصال المباشر، إلّا أنها يمكن أن تمهّد السبيل لذلك.
لا شك أنّ زيارة الرئيس الشرع إلى نيويورك وإلقاءه كلمة على منبر الجمعية العامة، فضلاً عن حراكه السياسي على هامش اجتماعات نيويورك، لم تُجسّد مبعث اطمئنان لـ”قسد”، إلّا أنها في الوقت ذاته لا تحمل نتائج مباشرة من شأنها تضييق الخيارات أمام حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وذلك بسبب امتناع إدارة الرئيس ترمب حتى الوقت الراهن عن ممارسة أية ضغوط فعلية على “قسد” لدفعها نحو الاندماج في الدولة السورية، فضلاً عن استمرار رهان “قسد” على الضغوطات الإسرائيلية التي تمارسها حيال دمشق، مما قد يفضي إلى تمكين القوى المسيطرة في السويداء من الحصول على شكل من أشكال “الإدارة الذاتية”، الأمر الذي يجعل من دعوة “قسد” للامركزية -حينها- شأناً أكثر مشروعيةً.
في النتيجة، يمكن القول إن مسألتي “قسد” والسويداء هما المسألتان الشائكتان اللتان تجسّدان أهمّ التحديات ليس أمام الحكومة السورية كسلطة فحسب، بل أمام الخطوات الأولى في تعافي البلاد السورية وشروعها نحو العبور من أزمتها الراهنة، ولعل ما يعزّز وعورة السبيل إلى حل هاتين المسألتين هو الاختراقات الخارجية للشأن السوري وقدرتها على الاستثمار فيهما بما يخدم مصالحها أولاً وآخراً.
المصدر: تلفزيون سوريا