
لم أتمكّن في عمّان، قبل أيام، من متابعة أيٍّ من الجلسات الخمس للندوة الاستذكارية “أمجد ناصر… طريق الشعر والنثر والسفر”، التي نظّمتها مؤسّسة عبد الحميد شومان، شارك فيها جمعٌ من النقّاد والباحثين والكتّاب الذين قدّموا 11 ورقةً في نتاجات صديقنا الباقي، رحمه الله، الشعرية والنثرية. وسيصدُر كتابٌ يضمّ هذه المساهمات التي طُلب من أصحابها أن لا تقلّ كلٌّ منها عن ثلاثة آلاف كلمة. طلبتُ من الصديق الروائي والصحافي، يحيى القيسي، أن ييسّر لي ورقته “المقال الصحفي وكتابة الذات”، ففعل، للاطلاع عليها، فموضوعُها يستهويني، وقناعتي أن أمجد واحدٌ من أساتذة المقال في الصحافة العربية. ولا أتزيّد هنا حماساً لصديقٍ وزميل، وإنما أقول هذا عن خبرةٍ طويلةٍ في متابعة مقالات أمجد، عدا عن أنني كنتُ من أتلقّى منه زاويته الأسبوعية لأهيّئها للنشر، طوال سنوات زمالتنا في “العربي الجديد”، منذ صدورها في 2014 إلى وفاته في 2019، وكنتُ أغبط نفسي بأني قارئها الأول. وأفتح هنا قوساً، وأوضح أن أمجد لم يرضَ عن نفسِه في زاوية التعليق السياسي الأسبوعي، فقد كتبها لدينا بضعة أسابيع، ثم غادرَها، لينقطع إلى المقالة التي يحترفُها، تلك التي تتنوّع حرّة طَلْقة، وتتعدّد مشاغلُها وزوايا التناول فيها، وتجمع بين الذاتي والسياسي والثقافي، وتتوفّر دائماً على تلك الجاذبية الشائقة، ومعجم أمجد رحبٌ، وعلى انتباهاتٍ حاذقةٍ لا ريب، وتحضُر فيها سعة المثقف الذي يجد في الفنون والأدب ذخيرةً متينةً لتسليح رؤاه وأفكاره وطروحاته وتظهيرها في ثوبٍ رائق. وقد ظلّ أمجد، في كل مقالاته، ذلك المثقف المنحاز إلى كل حقّ، إلى كل عدالة، وضد كل طغيانٍ وتجبّر، ومع الحرّيات والتعدّد، وتلك سطورُه إبّان ثورات الربيع العربي، ومنها الثورة السورية، تشهد على ما كانه، صاحبَ موقفٍ لا يتسامح مع أيٍّ من ألوان التسلّط. وقد أجاد يحيى القيسي في إحاطته بهذا كله عمّا يمكنني تسميته فنّ المقالة عند أمجد ناصر، وقد جال في مقالاتٍ لصاحبنا طافت في غير شأنٍ وأمر.
تتعلّق نقطة النظام التي يُشهرها عنوان هذه السانحة بما صادفتُه لدى العزيز يحيى، عندما جاء على “إشارة فائضة عن الحاجة” ذيّل بها أمجد زاويةً له في “العربي الجديد” عنوانُها “إخوان وعسكر: أهذه مصر؟”، أوضح فيها شاعرُنا أن موقفه في زاويته تلك لا يندرج في “أخونةٍ” خفيّةٍ لديه، وقد انتقد النظام الحاكم في مصر، وكتب بالحرف “كلّ ما في الأمر أنني، والعديد مثلي، سواء في هذا المشروع (إصدار العربي الجديد) أو غيره، لم ننخرط في سُعار العداء للإخوان، ولم نصدَح في أبواق المديح للعسكر الذي ينبغي أن يكون على الحدود، لا في الشارع، ولا في سدّة الحكم. كان ذلك موقفي من قبل، وسيظلّ من بعد، فلم يضحّ مئات الآلاف من الشباب العربي بأرواحهم لكي يعود الاستبداد من الشباك، بعدما ظننا أنه خرج من الباب”. يوضح أمجد هنا ما هو أكثر من واضح. وأزعم إنه ينطق عن كل زملائه في مشروعنا الذي أراد الصديق يحيى أن يظلّله بتكهّن (يوضح أنه لا يجزم)، عندما يكتب بالحرف إن “طبيعة الخطاب الذي تتبنّاه الصحيفة التي كان يعمل فيها أمجد، أي “العربي الجديد”، بشأن إخوان مصر والسلطة، قد ساهم في إعطاء اللون نفسه، كنوع من التعميم، دون أخذ الاعتبار لتاريخه الماركسي العريق، أو لرأيه الخاص والمتفرّد الذي قد يخالف كثيراً أو قليلاً التوجّهات العامة لهذه الصحيفة”.
أراني هنا مندهشاً من هذه الظنون لدى يحيى بشأن “العربي الجديد”، وأحسبُ لو أنه صرف بعض الوقت في تقليب بعض مقالات الرأي في صحيفتنا، لوجد أننا، منذ اليوم الأول، لم نكن إخوانيين ضد السلطة في مصر، وأننا لا نناهض العُسف في هذا البلد، صدوراً عن منظور إخواني أو إسلامي، ولعرف بنفسه “توجّهاتنا العامة”. لسنا هكذا، فالقضية، يا يحيى، أن “العربي الجديد” التي انتسب إليها أمجد لقناعته بفكرتها، ومن منظوره اليساري، ظلت منذ يومها الأول ضدّ كل قمعٍ وانتهاك ومع الحرّيات، وإذا تعاطفَ كاتب مقالة فيها مع “الإخوان” فذلك لأنهم ضحايا، الأمر الذي كان سينسحب على شيوعيين لو كانوا في السلطة، وألحقتهم سلطة العسكر (بتعبير أمجد) في السجون، فقد كنّا سنقف في الضفة نفسها.
أخطأتَ، صديقي يحيى، بريبتك فينا، وأخطأتَ في حقّ أمجد نفسه الذي تفترضُه كان في سِربٍ غير الذي نحن عليه، فأراد إيضاح ما أوضحه. لا، يا عزيزي، ما عليك سوى أن تقرأنا، فلا يستبدّ بك التعجّل كما الذي لدى كثيرين (من أصحابنا؟) يستسهلون، وبعد 11 عاماً من صدور “العربي الجديد”، ارتجال الظنون، وهذا لا يجوز في ورقة ندوةٍ سيضمّها كتابٌ للعموم.
المصدر: العربي الجديد






