استلهام وثيقة الاستقلال الفلسطينية

سمير الزبن

         

في كل مراحل التاريخ الفلسطيني الحديث كانت القيادات الفلسطينية، والناطقون باسم الفلسطينيين، يقولون إنّ “القضية تمرُّ بمرحلة خطرة”، ولم يكن هذا التقدير في السنوات السبعين الماضية خاطئاً، فحقيقة الواقع والتاريخ أن الفلسطينيين وقضيتهم كانوا دائماً في دائرة الخطر، على تفاوت الأخطار التي تعرّضت لها هذه القضية خلال تاريخها. والمرحلة الحالية تنتمي إلى أخطر المراحل التي مرّت بها القضية الفلسطينية، وفي ظروفٍ بالغة التعقيد، وفي بيئة دولية وإقليمية ليست داعمة للقضية الفلسطينية على المستوى الرسمي.

خرقت حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة كل المواثيق الدولية، وقتلت الفلسطينيين رجالاً ونساءً وأطفالاً، في مذبحة حقيقية ما زالت مستمرّة، تجاوز ضحاياها أكثر من 60 ألفاً، وما زال القتل مستمرّاً منذ حوالي عامَين، مئات الآلاف من المصابين والمهجّرين، وتدمير الأغلبية الكبرى من مباني القطاع، وجعله مكاناً غير قابل للعيش. وتسعى إسرائيل بكل قوتها من أجل تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، وهو ما يتقاطع مع مشروع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتملّك الولايات المتحدة القطاع وتهجير سكّانه، من أجل بناء مشروع سياحي على أنقاض بيوت الفلسطينيين، ما يسمح لإسرائيل بالذهاب بالوضع الفلسطيني إلى وضعٍ غير قابل للحلّ، وتكريس إسرائيل حاكماً للمنطقة بعد الضربات التي وجّهتها إلى قطاع غزّة ولبنان وإيران وقطر، ما يُنشئ واقعاً إقليمياً جديداً، فتسعى إسرائيل إلى تحويل هذا التفوّق العسكري إلى سيطرة سياسية على الإقليم، واعتبار نفسها حامية دول المنطقة من المخاطر المحيطة، من خلال توسيع الاتفاقات الإبراهيمية التي أُنجِزت في ولاية ترامب السابقة، ووقّعتها بعض الدولة العربية مع إسرائيل في تجاهل للفلسطينيين. اليوم، تسعى إسرائيل إلى تهجير جماعي للفلسطينيين، وتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية، وعدم الاكتفاء بتجاهل القضية الفلسطينية، بل تجاوزها وإلغائها أيضاً.

العمل السياسي لتحقيق الأهداف الوطنية، يجب أن يتكامل فيه الخطاب السياسي مع المؤسّسات التمثيلية والفاعلة في الواقع

عندما وقع “طوفان الأقصى”، وما تبعه من حرب إسرائيلية وحشية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، كانت الساحة الفلسطينية منقسمة سياسياً وجغرافياً، منذ الصدام المسلّح الدموي في قطاع غزّة، وسيطرة حركة حماس عليه في عام 2007، وتشكيل حكومتها الخاصّة. وبقيت الضفة الغربية تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، التي تديرها حركة فتح. وبعد هذا الانقسام، دخلت الساحة الفلسطينية سلسلة متقطّعة من الحوارات الفلسطينية- الفلسطينية، توصّلت في مرّاتٍ عدّة إلى اتفاقات عبّر الطرفان عن الرضا عنها، لكن لم ترَ أيّ منها النور، ولا أحد يختلف على أن هذا الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني أضعف الساحة الفلسطينية مجتمعة، وأضعف الفصائل ذاتها، والسلطة الفلسطينية أكثر الأطراف تضرّراً من هذا الانقسام.

وليست مهمّة هذه العجالة معالجة الانقسام الفلسطيني، ولا الخلاف حول “طوفان الأقصى”، ولا على من يملك قرار الحرب والسلم فلسطينياً، ولا الموقف المنقسم من العملية ذاتها. وليست وظيفتها معالجة الانقسام الذي بدأ في عام 2007، أو اتخاذ موقف من العملية وتداعياتها، فالوضع الذي أسفرت عنه الحرب الإسرائيلية التي تذرّعت بهجوم “7 أكتوبر” (2023) تجاوز هذه الخلافات الفلسطينية كلّها، وخلق واقعاً فلسطينيا كارثياً يحتاج إلى معالجة حقيقية من كل الأطراف، وترك خلافاتها السابقة وراءها، لأن ما يحصل في غزّة يعادل كارثة اللجوء إن لم تكن أكبر.

ما يحصل في غزّة يعادل كارثة اللجوء إن لم تكن أكبر

اليوم، في ظلّ المخاطر التي تتعرّض لها القضية الفلسطينية، ومخاطر تبدّدها، تحتاج الساحة الفلسطينية إلى إعادة النظر في بنيتها التنظيمية، وفي خطابها السياسي. فالحالة المترهّلة والكارثية لمنظّمة التحرير الفلسطينية، الممثّل الشرعي والوحيد للفلسطينيين، بحاجة إلى إعادة نظر في تمثيلها، وإلى العمل على أن تتشكل من قوى ومؤسّسات حقيقية، لها وزنها وثقلها في الواقع الفلسطيني. فالعمل السياسي لتحقيق الأهداف الوطنية، يجب أن يتكامل فيه الخطاب السياسي مع المؤسّسات التمثيلية والفاعلة في الواقع، أمّا الخطاب السياسي وحده، ومهما كان معبّراً عن الواقع ومتطلّبات المستقبل، لن يكون له قيمة، من دون أن يملك حاملاً تنظيمياً وسياسياً يعمل لتحويل الأهداف الوطنية إلى إنجازات في الواقع الموضوعي.

وفي هذه اللحظات الصعبة، يمكن استلهام لحظة مشرّفة في التاريخ الفلسطيني، على أن تكون أساس الخطاب السياسي الفلسطيني الجامع، لحظة إعلان الاستقلال الفلسطيني، الذي كان تحوّلاً في الخطاب السياسي الفلسطيني ليستجيب لنضالات الفلسطينيين بعد عام من الانتفاضة الفلسطينية المجيدة، التي انفجرت في نهاية عام 1987. فهذا النصّ الذي تحدّث عن “الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب العربي الفلسطيني بتشريده وبحرمانه من حقّ تقرير المصير، إثر قرار الجمعية العامة رقم 181 عام 1947، الذي قسَّم فلسطين إلى دولتَين عربية ويهودية”، وأن “هذا القرار ما زال يوفّر شروطاً للشرعية الدولية تضمن حقّ الشعب العربي الفلسطيني في السيادة والاستقلال الوطني… فإن المجلس الوطني يعلن، باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف”. هذا الإعلان التاريخي الذي كان له وقعه في ذلك الوقت، فشهد اعتراف حوالي 150 دولة بالدولة الفلسطينية. ولم يكن إعلان الدولة رمزياً فحسب، بل كان إعلاناً سياسياً بامتياز أيضاً، من أجل تثمير الانتفاضة الفلسطينية التي كانت مشتعلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والبحث عن حلّ تاريخي واقعي بدولة فلسطينية مستقلة.

يمكن للقوى الفلسطينية أن تتحّد على برنامج الاستقلال والحماية الدولية، من أجل الحفاظ على الذات، ومواجهة الإبادة والإلغاء الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني

وقد ترافق هذا الإعلان التاريخي مع إعلان سياسي صدر عن اجتماع الدورة الـ19 للمجلس الوطني، وهي الدورة التي أصدرت إعلان الاستقلال. وتبنّتْ “برنامج دحر الاحتلال، وحقّ العودة وتقرير المصير والدولة المستقلة”، يقوم على “ضرورة انعقاد المؤتمر الدولي الفعّال الخاصّ بقضية الشرق الأوسط، وجوهرها القضية الفلسطينية، تحت إشراف الأمم المتحدة، وبمشاركة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وجميع أطراف الصراع في المنطقة، بما فيها منظمة التحرير، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وعلى قدم المساواة، آخذين بالاعتبار أن المؤتمر الدولي ينعقد على قاعدة قراري مجلس الأمن رقم 242 و338، وضمان الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدّمتها حقّه في تقرير المصير، عملاً بمبادئ وأحكام ميثاق الأمم المتحدة بشأن حقّ تقرير المصير للشعوب، وعدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة أو بالغزو العسكري، ووفق قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية”. مفصّلاً ذلك بالمطالبة بانسحاب إسرائيل من كل الأراضي المحتلة عام 1967، وإلغاء جميع إجراءات الإلحاق والضمّ، والسعي إلى وضع الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت إشراف الأمم المتحدة، وحلّ مشكلة اللاجئين، وفق قرارات الأمم المتحدة.

رغم اختلاف الظروف القائمة اليوم عن التي كانت سائدة لحظة إعلان الاستقلال، يمكن للقوى الفلسطينية أن تتحّد على برنامج الاستقلال والحماية الدولية، من أجل الحفاظ على الذات، ومواجهة الإبادة والإلغاء الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى