
في ذاكرة ثورة يوليو يقف علي صبري كأحد أبرز رجال الدولة الذين صنعوا نفوذهم من صمت المكاتب وغرف التخطيط، لا من ضجيج الجماهير أو جاذبية الخطابة. صعد سريعاً من مقاعد الكلية الحربية إلى سماء مخابرات الطيران، ثم إلى قمة هرم السلطة بجوار جمال عبد الناصر، حتى صار رمزاً لصلابة الدولة المركزية ومشروعها الطموح. لكن حين تبدّل الزمن وجاء أنور السادات، وجد نفسه في مواجهة مسار مغاير: الانفتاح على واشنطن، والتفريط فيما اعتبره ثوابت يوليو.
سقط علي صبري سياسياً، وزُجّ به في السجن، وانزوى بعيداً عن دائرة القرار. ومع ذلك ظل حتى آخر أيامه رجل مبادئ، تمسّك بما آمن به، ودفع ثمن وفائه لتلك الثوابت.
وُلد علي صبري في عام 1920، وتخرّج في الكلية الحربية عام 1939، ولكنه لم يكتفِ بالتخرج كضابط ، بل جذبته آفاق السماء، فالتحق بـ الكلية الجوية عام 1940، ثم عاد إليها مدرّساً، قبل أن يشق طريقه إلى العمل السري، حيث تولى مواقع قيادية في مخابرات الطيران حتى أصبح مديرها عام 1951.
ومن قلب هذه الخبرات الاستخبارية، جاء دوره في ليلة الثورة.
في الساعات الأولى من يوم 23 يوليو 1952، حين تحركت قوات الضباط الأحرار للسيطرة على مفاصل الجيش والدولة، استدعاه جمال عبد الناصر وأسند إليه مهمة لا ينهض بها إلا رجل ثقة: أن يحمل رسالة شفهية إلى الملحق الجوي الأمريكي في القاهرة ليبلغها إلى سفارته. مضمون الرسالة كان حاسماً وبسيطاً في آن واحد: ما يجري في مصر هو حركة داخلية خالصة لا تقبل تدخلاً أجنبياً، وأي محاولة بريطانية للانقضاض على الضباط ستؤدي إلى عواقب وخيمة.
بهذا التكليف، وضع عبد الناصر علي صبري على خط المواجهة الدبلوماسية منذ اللحظة الأولى للثورة، كاشفاً عن الوجه الآخر للحركة: لم تكن مجرد انقلاب عسكري ، بل كانت أيضاً معركة رسائل وضغوط مع القوى الدولية. ومنذ تلك الليلة، صار علي صبري واحداً من أذرع عبد الناصر السياسية والاستخبارية، وبدأت رحلته في قلب الدولة الجديدة.
بعد ثورة 23 يوليو 1952، عمل علي صبري مديرًا لمكتب الرئيس جمال عبد الناصر ، ثم تولى منصب رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية من عام 1956 حتى 13 مايو 1957. بعد ذلك تولى منصب وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية منذ مطلع 1958 وحتى 29 سبتمبر 1962، ثم أصبح رئيسًا لمجلس الوزراء من 29 سبتمبر 1962 حتى 3 أكتوبر 1965.
تولى علي صبري منصب الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي من عام 1965 وحتى 1968، وعُيّن نائبًا لرئيس الجمهورية من 3 أكتوبر 1965 إلى 20 مارس 1968، بالإضافة إلى وزارة الإدارة المحلية منذ 19 يونيو 1967 وحتى 20 أكتوبر 1970، وشغل أيضًا منصب مساعد رئيس الجمهورية لشؤون الدفاع الجوي، حيث كان مسؤولًا عن الاتصال بين القوات المسلحة المصرية والقيادة السوفيتية في ما يتعلق بالتسليح والتدريب والخبراء.
في عهد الرئيس أنور السادات، عُيّن علي صبري نائبًا لرئيس الجمهورية في 16 أكتوبر 1970، كما أصبح عضوًا في مجلس الدفاع الوطني، وكان دوره مرتبطًا بقضايا الحرب والسلام والإشراف على بعض شؤون القوات المسلحة.
هذه المناصب جعلت منه أحد أعمدة دولة يوليو وصاحب نفوذ واسع داخل مؤسسات الحكم.
ارتبط اسم علي صبري بالمشروع الناصري: بناء الدولة المركزية القوية، والتخطيط الاقتصادي، وتعزيز الدور القيادي لمصر عربياً وأفريقياً وعالمياً، وتثبيت شرعية ثورة يوليو عبر الاتحاد الاشتراكي. وقد كان يمثل تيار الدولة التنموية التي تقود المجتمع من فوق، من خلال السيطرة على أدوات الاقتصاد والسياسة والإعلام.
تمت الخطة الخمسية الأولى للتنمية الاقتصادية في مصر (1960–1965) خلال تولي علي صبري لرئاسة الوزراء، وحققت نجاحًا ملحوظًا، فقد بلغ متوسط معدل النمو الاقتصادي السنوي 6.7%، متجاوزًا بذلك معدل النمو السكاني البالغ 2.8%، ما انعكس إيجابًا على مستوى المعيشة. كما شهد الإنتاج الصناعي قفزة كبيرة، إذ ارتفع من 314 مليون جنيه في عام 1952 إلى 1.14 مليار جنيه في عام 1965، بنسبة زيادة تقارب 262%، مع ارتفاع نصيب الفرد من الدخل القومي بنسبة 28% بين عامي 1960 و1965، مما دل على تحسن توزيع الثروة. وقد تم خلال هذه الفترة تنفيذ مشروعات ضخمة في مجالات البنية التحتية والطاقة والصناعة، أبرزها السد العالي، ما ساهم في دعم الإنتاجية الوطنية. كما ارتفع إجمالي القوة العاملة من 6.0 مليون عامل في عام 1960 إلى 7.3 مليون عامل في عام 1966، بزيادة قدرها 22%، ما يعكس نجاح السياسات الاقتصادية في توفير فرص العمل.
خاض علي صبري صراعات ضارية في قمة السلطة:
مع المشير عبد الحكيم عامر: العلاقة بين الرجلين اتسمت بالعداء. كان المشير يسعى إلى مد نفوذ الجيش داخل المؤسسات السياسية للنظام، بينما اعتبر صبري أن ذلك يُضعف سلطة الرئاسة والتنظيمات السياسية.
هذا الخلاف ترك أثره العميق حتى نكسة يونيو 1967.
ومع محمد حسنين هيكل: العلاقة بين علي صبري وهيكل كانت صراعاً مكتوماً بين رجل التنظيم ورجل الكلمة النافذة.
عبد الناصر كان يرى في علي صبري مثقفاً يناقشه في قضايا الفكر والسياسة، وهو ما أثار غيرة هيكل الذي اعتاد أن يكون الأقرب إلى عقل الرئيس. من جانبه، كان علي صبري ينظر إلى هيكل باعتباره سياسياً متخفياً في ثوب صحفي.
في أكتوبر 1969 عاد علي صبري من موسكو محمّلاً بالهدايا، لكن ما إن وصل مطار القاهرة حتى وُضِع في مواجهة أزمة مفتعلة حول الرسوم الجمركية. كان في انتظاره صحفي ومصور من جريدة الأهرام، أُرسلا بتكليف من محمد حسنين هيكل وبتعليمات من عبد الناصر الذي بلغه خبر الهدايا مسبقاً. جرى تصوير المشهد ونُشرت تفاصيله في الصفحة الأولى بجريدة الأهرام في اليوم التالي وكأنه فضيحة علنية، بينما في المساء نفسه عادت الهدايا لتُسلَّم إلى منزل علي صبري، في إشارة واضحة إلى أن الهدف لم يكن مصادرة الأشياء بل إحراجه سياسياً.
اعتبر علي صبري ما حدث تشهيرًا متعمّدًا به فاستقال من منصبه، مما أتاح للرئيس عبد الناصر تحقيق هدفه في تحجيمه سياسيًا، موجّهًا في الوقت نفسه رسالة واضحة للسوفيت تفيد بأنه المسيطر على كل مقاليد السلطة.
في 18 ديسمبر 1969، التقى الرئيس جمال عبد الناصر بالملك فيصل في القاهرة، حيث كشف الملك عن إحباط محاولة انقلابية حدثت في يونيو 1969 في السعودية شارك فيها ضباط من سلاح الجو، وكان لهم صلة بالقاهرة عبر سامي شرف، سكرتير الرئيس للمعلومات. ورغم إنكار عبد الناصر علمه بالمحاولة، أثار الأمر غضب الملك فيصل، لا سيما بعد نجاح انقلاب القذافي في 1 سبتمبر 1969، الذي أطاح بالملك إدريس السنوسي في ليبيا.
وفي ظل هذا الجو الملبد بالشكوك والضغوط، اتخذ عبد الناصر في 20 ديسمبر 1969 قرارًا بتعيين أنور السادات نائبًا أول له، خطوة فسّرها كثيرون على أنها محاولة لطمأنة الملك فيصل، لكنها في الوقت ذاته جاءت لتقويض نفوذ علي صبري وحسين الشافعي، اللذين بدأت حظوظهما في خلافة عبد الناصر تتراجع بشكل واضح.
وفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 فتحت الباب أمام مرحلة جديدة.
وافق علي صبري على خلافة السادات لعبدالناصر ، لكن سرعان ما ظهرت الخلافات بينه وبين السادات. لقد كان الصراع بينهما في جوهره صراع خطين متناقضين:
– خط عبد الناصر كان يقوم على بناء دولة مركزية قوية، تقوم على استقلال القرار الوطني، والتخطيط الاقتصادي، وتوفير التعليم والصحة مجاناً، مع توسيع قاعدة الطبقة الوسطى، وتعزيز الدور القيادي لمصر في العالمين العربي والإسلامي وأفريقيا، وامتداد تأثيرها إلى دول العالم الثالث.
– خط السادات ارتكز على التحالف مع الولايات المتحدة، والاصطفاف خلف السياسات السعودية في العالم العربي، وفتح المجال أمام الجماعات الإسلامية لاستخدامها في مواجهة التيارات اليسارية والناصرية، إضافة إلى تفكيك تركة جمال عبد الناصر الاقتصادية والسياسية بالكامل.
توضح الوقائع درجة التوتر بين علي صبري والسادات وأبعاد العزل السياسي الذي تعرض له صبري: في مكالمة هاتفية مع شعراوي جمعة بتاريخ 2 أبريل 1971، عبّر علي صبري عن خشيته من مسار الحكم الجديد قائلاً عن السادات: «بكره يسلم البلد للأمريكان.» وبعد شهر، وفي 2 مايو 1971، أصدر السادات قرار إقالة علي صبري من مناصبه.
وفي تسجيل آخر لمحادثة تليفونية بين علي صبري ووزير الإعلام محمد فائق عقب إقالة السادات له، قال علي صبري بمرارة : «السادات بيبيع البلد للأمريكان وبيهدّ كل اللي بناه عبد الناصر في عشرين سنة. لن أتحمّل المسؤولية أمام التاريخ وأمام أولادي وأمام الشعب إذا تحول الحكم إلى حكم الفرد — وليس أي فرد بل أنور السادات — الذي سيقوم بتصفية كل العناصر الجيدة في البلد. وأضاف بصوت مشحون: هيضربكوا بالجزم، وأنا ما أقبلش أني أضرب بالجزمة.»
عبّرت هذه العبارات عن مزيج من الغضب واليأس والشعور بالخيانة، وعن قناعة صبري بأن ثوابت المشروع الناصري تتعرض للخطر بشكل جذري.
وعلى عكس باقي مجموعة مايو الذين قدّموا استقالاتهم طوعًا، كان علي صبري الوحيد الذي أُقيل من مناصبه بقرار مباشر من الرئيس أنور السادات، لم يهرب من المواجهة كما فعل رفاقه، لكنهم في المقابل لم يحمُوه حين احتاج إليهم. وأثبت الفريق أول محمد فوزي (القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية)، وسامي شرف (سكرتير الرئيس للمعلومات، والمشرف على الحرس الجمهوري، ووزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية)، وشعراوي جمعة (وزير الداخلية، والمسؤول عن التنظيم الطليعي داخل الاتحاد الاشتراكي العربي) أنهم مجرد موظفين كانوا ينفذون أوامر عبد الناصر أكثر من كونهم رجال سياسة، فعلى الرغم من أنهم عملوا مع عبد الناصر ثمانية عشر عامًا كاملة، إلا أنهم لم يتعلموا منه شيئًا في فن إدارة الصراع أو حماية المشروع الذي انتموا إليه، وكان ذلك هو السبب الحقيقي في انتصار السادات عليهم وحسمه للصراع لصالحه.
تم اعتقال علي صبري في 13 مايو 1971، وأُحيل إلى محكمة الثورة -التي شكلها الرئيس السادات لمحاكمة رجال عبد الناصر- بتهمة التآمر ومحاولة الاستيلاء على السلطة. أصدرت المحكمة حكمًا بالإعدام ضده، ثم جرى تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد، ليقضي في السجن نحو عشر سنوات قبل أن يُفرج عنه، وكانت محاكمته في جوهرها سياسية، تعكس طبيعة الصراع على الحكم في تلك المرحلة أكثر مما تعكس عدالة قانونية حقيقية.
بعد خروج علي صبري من السجن شارك في محاولات إنشاء حزب يجمع الناصريين، كما أجرى حوارًا مطولًا مع الكاتب الصحفي عبد الله إمام صدر في كتاب بعنوان «علي صبري يتذكر»، وهو يمثل جزءًا من ذكرياته، لكنه رفض أن يكتب مذكراته رغم إلحاح الكثيرين عليه، وظل حاضرًا في المشهد السياسي والفكري حتى وفاته في الثالث من أغسطس 1991.
لقد كانت هزيمة علي صبري في الصراع على السلطة في مايو 1971 أكبر من هزيمة رجل بعينه؛ كانت هزيمة رمز لجيلٍ حلم أن تصبح مصر زعيمة للعالم العربي، تملك قرارها وتخط طريقها بعيدًا عن الهيمنة الغربية. وحين رحل عبد الناصر، وجد صبري نفسه مكشوفًا أمام رفاقٍ انفضّوا عنه ورئيسٍ جديد قلب الموازين وأدار ظهره لثوابت يوليو.
لم يكن علي صبري قديسًا ولا زعيمًا جماهيريًا، لكنه ظل حتى اللحظة الأخيرة مخلصًا لمشروعه، دفع ثمن الوفاء بالعزلة والسجن والتشويه، بينما انتصر خصومه بانفتاحٍ جلب لمصر الهشاشة والتبعية.
رحل علي صبري مهزوماً في السياسة، لكنه ظل واقفاً في ذاكرة التاريخ كأحد رجال الدولة الذين لم يساوموا على استقلال مصر وسيادتها.
المصدر: صفحة عمرو صابح