
إذا كان السيناتور الأميركي، كريس ميرفي، يجد صعوبة في تصديق أن الرئيس دونالد ترامب لم يكن يعلم مسبقاً بشأن الضربة الإسرائيلية التي استهدفت وفد حركة حماس المفاوض في الدوحة، فالأحرى أن تكون الصعوبة لدينا أكبر في تصديق ذلك. فمن غير المحتمل، منطقيّاً، أن تتخذ إسرائيل قراراً بمهاجمة حليف للولايات المتحدة، يستضيف أكبر قاعدة عسكرية أميركية خارج أراضيها، ويقوم بدور الوسيط إلى جانبها لوقف حرب غزّة، من دون أن تكون على علم بذلك (!). في كل الأحوال، إذا كانت واشنطن لا تعلم فتلك بالتأكيد مشكلة، لكن إن كانت تعلم، وتغاضت عن الضربة، فتلك مشكلة أكبر بكثير.
… باتت إسرائيل منذ عام 1967 أقرب حليف إلى الولايات المتحدة على الساحة الدولية. أسباب التحالف الإسرائيلي – الأميركي كثيرة، وقد أشبعت بحثاً، لكن أبرزها، على ما يرى بعضُهم، هو “القيم المشتركة”، التي ترتكز إلى الإرث اليهودي المسيحي (Judeo-Christian Heritage) الذي يمثل المؤمنون به اليوم قاعدة دعم كبرى للرئيس ترامب. ومن المعقول تقدير هؤلاء أيضاً بأنه عندما تصطدم مصالح حليفين للولايات المتحدة، فالأرجح أن تميل واشنطن إلى الحليف الذي يشاركها قيمها، لكن واشنطن، خصوصاً في عهد الإدارة الحالية، لا تتردّد في رمي القيم (كل القيم) في سلة المهملات، إذا تعارضت مع جوهر مصالحها هي. وإذا كان الأمر كذلك، يغدو السؤال: لماذا اختارت واشنطن إذاً تحالفها “القيمي” مع إسرائيل بدلاً من مصالحها الكبرى مع دول الخليج. لم تفعل واشنطن هذا، في الواقع، لأنها لم توضع أصلاً أمام هذا الخيار، إذ لم يحصل أبداً في تاريخ العلاقات الخليجية-الأميركية أن خيرت دول الخليج العربية واشنطن بينها وبين دعم إسرائيل وسياساتها في المنطقة.
طوال فترة الحرب الباردة أن واشنطن نجحت في تجنّب أي انعكاسات سلبية لتحالفها مع إسرائيل على مصالحها الخليجية، وباستثناء أزمة قطع البترول العربي في أثناء حرب أكتوبر (1973)، لم تحصل أزمة حقيقية بين دول الخليج العربية وواشنطن نتيجة تحالف الأخيرة مع إسرائيل أو موقفها من القضية الفلسطينية. ويعود السبب إلى اعتماد دول الخليج العربية أمنياً على واشنطن لمواجهة النفوذ السوفييتي، والمد القومي العربي؛ وحاجتها إلى التكنولوجيا الأميركية المتعلقة خصوصاً بصناعة الطاقة التي تمثل عصب الحياة للاقتصادات الخليجية. بناء عليه، نشأ طوال فترة الحرب الباردة زواج مصلحة أميركي – خليجي يقوم على صيغة واضحة، اختصرتها معادلة “الأمن مقابل النفط”.
أمام الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد الأميركي حالياً، لا مبالغة في القول إن حياة أميركا الاقتصادية تعتمد اعتماداً بيّناً اليوم على مصالحها مع الخليج
لم يغير انتهاء الحرب الباردة كثيراً من بيئة الخليج الأمنية واعتماد دول الخليج العربية على واشنطن، إذ حلّ العراق ثم إيران محل الاتحاد السوفييتي والمد القومي العربي معاً، باعتبارهما التهديد الرئيس لها. وقد تزايد الإحساس خليجيّاً بالخطر، خصوصاً بعد الغزو الأميركي للعراق (2003) وتغوّل النفوذ الإيراني في عموم منطقة المشرق العربي، ما دفع بعض دول الخليج حتى إلى التحالف مع إسرائيل لمواجهة إيران، في إطار ترتيبات أميركية لأمن المنطقة، على شاكلة “الناتو الشرق أوسطي” ثم “الاتفاقات الإبراهيمية”.
ولكن البيئة الأمنية الخليجية تغيرت تماماً بعد عملية طوفان الأقصى (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، حيث تمكّنت إسرائيل من تغيير موازين القوى الإقليمية بشدّة لصالحها بعد إضعاف المحور الذي تقوده إيران، خصوصاً بعد الحرب التي أسفرت أخيراً عن إلحاق أضرار بالغة ببرنامج إيران النووي، وقدراتها الدفاعية، ولتتحوّل بذلك إسرائيل إلى التحدّي الأمني الرئيس لكل دول المنطقة، بما فيها دول الخليج العربية التي باتت هي نفسها في مرمى الاعتداءات الإسرائيلية، بعد مهاجمة قطر.
توحي ردات فعل دول الخليج العربية على العدوان الإسرائيلي ضد قطر، ودرجة تضامنها معها، أن هذه الدول باتت تدرك مقدار التحدّي الذي تمثله إسرائيل لها، بعد أن انفلتت من عقالها، بتأثير فائض القوة الذي تمتلكه، حتى صارت تضرب في كل صوب من دون حساب. يستدعي هذا الوعي بالتغير العميق الذي طرأ على بيئة الخليج الأمنية جسر الهوة القائمة بين احتياجات دول الخليج الأمنية ومصالحها الاقتصادية، والتي ازدادت اتّساعاً في السنوات الأخيرة بسبب تناقص اعتماد واشنطن على النفط الخليجي، بعد أن صارت أكبر منتج للطاقة الأحفورية في العالم. لكن مصالح إدارة ترامب مع دول الخليج لا تقتصر على النفط والغاز على أهميتهما، بل هي أكبر من ذلك بكثير.
على دول الخليج أن تبني معادلة جديدة في علاقاتها مع واشنطن، جوهرها أن مصالحكم الاقتصادية معنا مرتبطةٌ بلجم إسرائيل
وأمام الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد الأميركي حالياً، لا مبالغة في القول إن حياة أميركا الاقتصادية تعتمد اعتماداً بيّناً اليوم على مصالحها مع الخليج. فهي تحتاج، مثلاً، إلى تعاون دول الخليج العربية لإبقاء أسعار الطاقة منخفضة، فيما يتجه الفيدرالي الأميركي إلى خفض أسعار الفائدة لتقليل خدمة الدين العام (37 تريليون دولار)، والتي صارت تكلفتها السنوية (تريليون دولار) أكبر من ميزانية الدفاع الأميركية. خلاف ذلك، يدخل الاقتصاد الأميركي في حالة ركود تضخّمي قد يدفع إلى أزمة جديدة لا تقل سوءاً عن الأزمة المالية لعام 2008 – 2009. فوق ذلك، يبلغ حجم التعاقدات التي أجراها ترامب في زيارته في مايو/ أيار الماضي للخليج أكثر من ثلاثة تريليونات دولار (1,2 تريليون مع قطر وحدها)؛ فيما يبلغ حجم الاستثمارات الخليجية في أميركا، بما في ذلك في سندات الخزانة الأميركية، أكثر من تريليوني دولار أخرى، أما حجم المشتريات الخليجية من السلاح الأميركي فيتجاوز المائتي مليار دولار (السعودية وحدها وقعت عقود تسليح بقيمة 140 مليار دولار أخيراً). وتوفّر هذه الاستثمارات، كما يفاخر ترامب، ملايين فرص العمل. علاوة على ذلك، يعد تسعير النفط العربي بالدولار الأميركي أحد أهم روافع العملة الأميركية، وهو الالتزام الذي نصّت عليه اتفاقية 1974 بين هنري كسينجر والملك فيصل لتوجيه عائدات البترودولار السعودية إلى السوق الاستثمارية الأميركية، وكشف النقاب عنها عام 2016.
لا يوجد شخص في العالم يفهم لغة المصالح ولديه الكثير منها مع دول الخليج؛ أكثر من الرئيس ترامب. أمّا وقد صارت حليفته إسرائيل تمثل تهديداً لأمن الخليج، وازدهاره الاقتصادي المرتبط كليًّا به، فعلى دول الخليج أن تبني معادلة جديدة في علاقاتها مع واشنطن، جوهرها أن مصالحكم الاقتصادية معنا مرتبطةٌ بلجم إسرائيل، ووقف حفل الجنون الذي تديره حكومة نتنياهو منذ عامين في المنطقة. يجب أن تدرك واشنطن أن البيئة الأمنية في المنطقة قد تكون تغيرت لصالح إسرائيل، لكن صار من الصعب في المقابل ابتزاز دول الخليج العربية في أمنها من جهة إيران أيضاً، خاصة أن إسرائيل صارت بجموحها وسياساتها ومحاولتها الهيمنة على المنطقة هي التهديد الفعلي لأمن الخليج واستقراره. هناك خيارات أخرى يمكن لدول الخليج التلويح بها لتعزيز أمنها، فضلاً عن تطوير تعاونها الدفاعي البيني، بما في ذلك تنويع شراكاتها الأمنية الدولية، إذ ليس هناك ما يغيظ واشنطن اليوم أكثر من تعزيز العلاقات الخليجية مع الصين وروسيا. تمثل القمة العربية-الإسلامية في الدوحة فرصة مهمة لدراسة هذه الخيارات والتلويح بها، وإنشاء معادلة تفاهم (ردع) جديدة مع واشنطن، التي بات من الضروري وضعها اليوم أمام خيار واضح قائم على المصالح، فالصمت والتردد العربي والخليجي في اتخاذ موقف واضح إزاء جرائم إسرائيل في غزّة، والسكوت على الدعم الأميركي لها، هو ما جرّأ إسرائيل على توسيع دائرة اعتداءاتها حتى بلغت الخليج. هذا الوضع يجب أن ينتهي.
المصدر: العربي الجديد