اليسار السوري بين الإرث الأيديولوجي والواقع المتغير

أحمد عيشة

مع سقوط الأسد وتسلّم هيئة تحرير الشام السلطة في كانون الأوّل 2024، ثمة أطراف عدة لم ترُق لها تلك السلطة بالأساس، فرغم التعبير عن حالة الفرح بالخلاص من حكم أسوأ نظام سلالي عرفته سوريا والمنطقة، إلا أن تعبيرات التخوف والقلق كانت ظاهرة في المواقف، والسبب الرئيسي لهذه المخاوف كان أيديولوجياً يتجلى في التخوف من الماضي السلفي الجهادي للهيئة.

تغلّفت مجمل المواقف المعارضة بغض النظر عن خلفيتها الاجتماعية والإثنية والدينية (المذهبية) بطابع “يساري ديمقراطي” يتجلى في الدفاع عن دولة المواطنة والحريات والعدالة والمساواة والعلمانية، في حين عملياً ما يزال غارقاً في أوهامه ذاتها من كونه طليعة تمتلك الصواب السياسي مهمته “تثوير” جمهور متخلف، ناهيك عن معركته الوهمية مع الإمبريالية، التي كانت سبباً في تقربه من الأنظمة والحركات الاستبدادية.

فما هي الدوافع وراء مثل هذه المواقف؟ وهل يستطيع اليسار أن يجدّد نفسه أم أن عطب بنيته الفكرية والتنظيمية قد حكم عليه بالتلاشي؟

بداية، لا بد من الحديث عن نشأة تيار اليسار في سوريا منذ  مئة عام، فقد تأسس بناء على أوامر خارجية متمثلة بالهيئة الأممية -مركزها موسكو- ومن خلال شخصيات غير عربية، سرعان ما انتشر بين صفوف الأقليات التي لاقت في طروحاته حول العدالة والمساواة والعلمانية أموراً تنصفها وتضمن حقوقها.

قوبلت الثورة السورية منذ اندلاعها بتشكيك من بعض أطراف “اليسار” المغرم بقيادة الثورات والنضال ضد الإمبريالية، خاصة وأن انطلاقة التظاهرات كانت من المساجد التي ينظر إليها على أنها مكان يشكل نقيصة في الوعي الثوري..

لكن خلال مسيرة التيار هذا، كرس شكلاً من تميز الأقليات تجاه العرب السنة، وهم الأكثرية، بدل أن يدمج هذه الأقليات بالقضية الوطنية العامة عمل على العكس، إذ رهن القضية الوطنية بموقف الأقليات والموقف منها ، حيث ما نزال نلمس حتى اليوم آثار تلك السياسة سواء على المستوى الضيق الحزبي، أم على المستوى الوطني، فالتعارض مع أهداف وتطلعات الطائفة أو الإثنية أياً كانت، فالأخيرة هي الملجأ.

قوبلت الثورة السورية منذ اندلاعها بتشكيك من بعض أطراف “اليسار” المغرم بقيادة الثورات والنضال ضد الإمبريالية، خاصة وأن انطلاقة التظاهرات كانت من المساجد التي ينظر إليها على أنها مكان يشكل نقيصة في الوعي الثوري، وهو ما يشير إلى زيف الادعاءات تجاه مسألة العلمانية -التي تفترض الحياد تجاه الأديان واحترامها- وأن صيغته الموروثة من العلمانية هي النسخة السوفياتية التي تميل إلى ازدراء الأديان مع دعوات تبسيطية وساذجة للإلحاد، تلك الصيغة التي ترجمها بعض أطراف اليسار إلى معاداة الإسلام تحديداً ووصمه بأنه أحد مصادر الاستبداد، إن لم يكن أكثر خطراً من الاستبداد السياسي القائم، أو كما سماه بعض “اليساريين” بأنه استبداد اجتماعي يتوجب مواجهته، في الوقت الذي يمكن فيه “التعايش” مع الاستبداد السياسي.

لم تكن الثورة السورية صراعاً ضد حكم أجنبي، وإنما كانت جزءاً من موجة الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة العربية ضد الأنظمة الاستبدادية الجمهورية التي تشكلت في فترة ما بعد الاستقلال.

وبالنسبة لسوريا، كان هذا يعني نظام السلالة الأسدية، التي كان ينظر إليه بعض اليسار على أنه يشكل حلقة مهمة في النضال ضد الإمبريالية، خاصة أنه يدعم حركات “المقاومة” في لبنان التي طردت إسرائيل.

فبدلاً من الإنصات لمطالب المتظاهرين السوريين المتمثلة في انتزاع حريتها وكرامتها والمشاركة معها، وفضح أسس محور مناهضة الإمبريالية القائم في جزء كبير منه على أسس طائفية، كان الاتهام بأن الاحتجاجات هذه تخدم مصالح الامبريالية الأميركية، بدل من الاشتراك مع السوريين كفاعلين سياسيين جدد، وبالتالي يتحول الأسد إلى ضحية، في منطق يعتمد قلب الوقائع على الأرض، حيث كانت المجازر تغطي سوريا.

يعود موقف غالبية اليسار من قضية الديمقراطية إلى الدعاية الماركسية السوفياتية بأنها خدعة برجوازية الغاية منها إلهاء الطبقة العاملة وحزبها الطليعي بقضايا ثانوية مثل الانتخابات وتداول السلطة وفصل السلطات واستقلاليتها، في حين الديمقراطية الحقيقية تتمثل بحكم دكتاتورية البروليتاريا كونها الأكثرية في عموم المجتمعات.

وفي بلد كسوريا وغيرها من البلدان التي دمرت فيها سلطات الاستبداد النسيج الاجتماعي وابتلعت معظم تشكيلاته المستقلة وحولتها إلى أجهزة رديفة للسلطات الأمنية، إذ دفع بالقمع في فترة الثورة إلى حدوده القصوى، مُدمجاً الميليشيات والشبكات الإجرامية في سلطاته، أصبح موقف اليسار من الديمقراطية تخوفاً منها بدل النضال من أجلها، فغدا الاستبداد شرطاً لوجوده، خاصة أنه يستخدم لغة مشابهة لخطاب النظام نفسه تجاه الجمهور المهمش، بكونه مصدر التخلف، ناهيك عن الادعاءات السابقة حول التحرر والاشتراكية والتقدم ومناهضة الامبريالية وإسرائيل والعلمانية.

في بلد كسوريا حيث كرّس نظام السلالة الأسدية مفهوم المواطن الشريف، أي المواطن المخبر، وحوّل فيه نظام الأسد البلاد إلى غابة من السجون والمقابر الجماعية، برز الخطاب الذي يدعو إلى المواطنة ودولة المواطنة والمساواة بين أطراف اليسار كمجاراة للتغيير الكبير في آواخر القرن الماضي بعد هزيمة الدولة -القبلة وانتصار الإمبريالية وتكريس الهيمنة الأميركية على العالم بما تحمله من نمط عيشٍ وتفكير، معتقداً أنها صيغة بديلة لأفكاره عن الاشتراكية والمساواة من دون إدراك لتاريخية المواطنة بما تمثله من علاقة بين المواطنين الأفراد والدولة تضمن حقوق المواطنين وتحدد واجباتهم من خلال عقد تنظمه القوانين، فأصبحت “المواطنة” كلمة سحرية يمكن أن توفر الحلول لمشاكل البلاد، وتحولت بطريقة ما إلى أيديولوجية بديلة عندما أصبح التصريح بالاشتراكية يشكل تخوفاً.

كان فشل اليسار في سوريا كبيراً فغير كونه أخلاقي، فهو عملي، من حيث ارتكازه على نمط تفكير وتحليل عفا عليه الزمن، وليس من خطأ في قراءة الوقائع فقط، فقد نظر إلى الثورة من وجهة التصارع الدولي كعامل رئيسي وأهمل مصالح الشعب ونضالاته..

لم يكن موقف اليسار بصيغه التقليدية والجديدة من الثورة في سوريا وحتى من الإدارة الجديدة قائماً على فهم الواقع السوري لغالبية الناس الذين عانوا من أبشع أنواع التمييز والحرمان وتعرضوا لشتى أنواع التعذيب والاعتقال والتهجير والقتل، وإنما من فهم أيديولوجي ومحاكاة لوقائع في مكان آخر في غير هذا الزمان، حاول قسر الوقائع والتاريخ بدلاً من تفهمها، وبالتالي أدخله في حالة اغتراب عن المجتمع المحلي ونضاله من أجل حريته وحقه في العيش بكرامة، الذي لا يماثل تصوراته عن الثورة، فكانت من وجهة نظره مفتقدة للقيادة المتسلحة بالوعي الثوري، هذا الاغتراب الذي يدفع به يوماً بعد يوم إلى أصوات متناثرة تفتقد إلى من يستمع لها، مع أن قضايا ومطالب الناس المضطهَدَة مستمرة، والانحياز لها هو الشرط الأساسي والمعيار الأخلاقي لأي قوى يسارية.

انطوت مرحلة الأسدية بكل آلامها وأوجاعها ودخلت سوريا في مرحلة جديدة، أهم ما يميزها هو الحرية في التعبير، وهو ما يدعو إلى بداية في العمل السياسي يقوم على شرط أساسي: الدفاع عن مصالح المهمشين والنضال من أجل تحقيقها، وهذا يستدعي التخلي عن الأفكار الموروثة من تجارب سابقة، فالوقائع تتغير باستمرار، والركون إليها يزيد من اغتراب وعزلة اليسار، وإذا كان لليسار معنى، فيجب أن يبدأ بالتضامن مع من يخاطرون بحياتهم من أجل الحرية، لا مع أولئك الذين يسيطرون، مع المهمشين من أجل نيل حقوقهم لا مع من يبتلعها.

وإذا كان للثورة السورية من درس فهو التركيز على القوى في الميدان، على من يخلقون البديل كقوة أساسية، وليس كملحق للقوى الكبرى.

كان فشل اليسار في سوريا كبيراً فغير كونه أخلاقي، فهو عملي، من حيث ارتكازه على نمط تفكير وتحليل عفا عليه الزمن، وليس من خطأ في قراءة الوقائع فقط، فقد نظر إلى الثورة من وجهة التصارع الدولي كعامل رئيسي وأهمل مصالح الشعب ونضالاته، ناهيك عن الدور القيادي الذي يفترضه لذاته كونه يمتلك الصواب وطريق الهداية.

فعودة اليسار إن كتِب لها لا يمكن أن تبدأ إلا من التركيز على كرامة أولئك الذين يكافحون ضد الظلم، ودرس الثورة السورية فيه من التحذير والإلهام ما يكفي، فلا يُمكن ادعاء التضامن مع الناس في حين تُناصر في الوقت نفسه، أو تدعم ضمنياً، مصدر اضطهادهم المباشر، فالسياسة تبدأ من البشر وعلاقاتهم، وليس من الأيديولوجيا.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى