كانت سنة 2024 حافلةً بالأحداث المؤثّرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ شهدت تصاعد النزاعات، ومآسي الناس مع استمرار الحرب في غزّة، وتحوّلات جيوسياسية كُبرى. وانتهى العام بسقوط أسطورة الاستقرار الاستبدادي، بإزالة الغموض عن النظام السياسي التاريخي السوري، الذي مارس لخمسين عاماً ونيّف لعبةَ الأقنعة والشعارات، التي شكّلت شرعية السلطة المباشرة على المجتمع، وحرمته من القدرة على التغيير.
قبل أسابيع من نهاية العام، أظهر النظام هالةً من الاستمرارية بدأ العالم بقبولها، وبخروجه من التراكم العادي لمعطيات واقعية، وعوامل من التعفّن الداخلي، وفساد الأجهزة والفراغ المؤسّساتي، لم تصل إلى نقطة استبدالها العام 2011 بواقع مغاير مع العقوبات الاقتصادية، والتدخّلات الخارجية التي كانت عقبةً رئيسةً أمام سقوط النظام وٳزالة الأوهام حول حقيقته.
كان على العالم (مجلة التايم) أن يتذكّر أن الشعب السوري عانى أسوأ جرائم القرن الحادي والعشرين، وبدأت الحقائق تظهر في الأمن والاقتصاد والسياسة. وتحقّق العالم متأخراً ممّا نشر سابقاً، واطّلع على حجم القتل الصناعي الذي رافق النظام في سجونه وفروعه الاستخبارية وغرف التعذيب (نحو 200 ألف معتقل ومختفٍ)، لا سيّما مع اكتشاف عشرات المقابر الجماعية وكشف أعداد المفقودين.
لا شيئ يكسر الروح الٳنسانية أكثر من الاطلاع على ما تعرّض له السوريون في سجون المزّة وصيدنايا وتدمر وعدرا
مستوىً واسع النطاق من أعتى ديكتاتوريات العالم، التي كانت تعتبر وقتاً طويلاً شرّاً ضرورياً، وٳرثاً استبدادياً، يخلط بين الحقائق الاجتماعية والسياسية للحفاظ على الحكم بمادّة وحيدة، القتل والاغتيالات بٳسم تحرير فلسطين ومواجهة ٳسرائيل والأميركيين، من دون ٳنجازات تنموية أو ٳدارية. 13 عاماً قضاها بشّار الأسد في محاولة قصوى لقصف شعبه، انتهى من الخدمة لاجئاً عند الرئيس الروسي بوتين، مضافاً إلى الأوكراني فكتور بانوكوفيتش، والقرغيزي عسكر أكاييف، والصربي ماريو ميلوسوفيتش، في استعارة روسية لما قاله الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، عن دكتاتور نيكارغوا سوموزا. لم يدرك بشّار الأسد أن عملية ٳعادة تشكيل الشرق الأوسط جعلته بلا جدوى، وأنه نفسه لم يعد ذا فائدة، بل أصبح عبئاً على أكثر من صانع قرار كبير. 11 يوماً فقط كانت كافيةً لطيّ صفحة من الطغيان الدموي، وما كان ليواجه بالسفسطائيات، ولا بالتعويذات الدينية، ٳنّما فقط بالرجوع إلى الغضب العفوي ورفض الظلم. كان النظام ضعيفاً جدّاً بفعل العقوبات الغربية. وبالتالي، كان يواجه أزمةً وجوديةً. لم يكن الركود الوحشي يعتمد على المجتمع المحلّي الحقيقي، بل على الأسلحة الروسية والدعم الٳيراني. وبعد استسلام الأسد لحليفَيه، ٳلى جانب مصالح المافيا الداخلية، أعيد ٳلى الساحة، وأعادت دول عبر العالم تطبيع علاقاتها معه.
ٳن الدروس المستفادة من زوال حكمه هي دروس مؤلمة، ٳذ تأتي في الوقت الذي كانت فيه الحكومات العربية (باستثناء قطر والكويت) تتحرّك نحو تطبيع العلاقات معه، وتقنع أميركا بمراجعة داخلية لسياسة سورية، وترسل في العام 2024 سفراءها ٳلى دمشق توجيهاً لرسائل تطمينية لتعزيز رؤيتها لسورية. واختارت دول أوروبية التحرّك في اتجاه ٳحداث تغيير مماثل في مرحلة من الركود والاستسلام واليأس. أدركت أنقرة أنها لن تتمكّن من ٳقناع دمشق بالانضمام ٳلى مفاوضات بشأن حلّ سياسي، ولذلك قرّرت ٳعطاء الضوء الأخضر للثوار السوريين في هيئة تحرير الشام، الذين كانوا ينتظرون هذه الفرصة، للتقدّم مع ضعف ٳيران وانشغال حزب الله في لبنان، من دون أن يتهموا بالتعاون مع أحد.
ظهرت ازدواجية المعايير بوضوح لدى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وبعدم الارتياح ٳزاء الفوضى الحتمية التي تصاحب التغيير الديمقراطي. كان هذا السبب وراء تقويض حركات الاحتجاج العربي المؤيّدة للتحوّل الديمقراطي في العام 2011. لكن الاستبداد كان سببأً آخر لتمزقّات وانقسامات كبيرة في الظرف الٳنساني والاجتماعي في الشكل الأكثر نفياً لقيم الحياة والحرّية، وكان مثال التـأثير السلبي في استقرار دول أخرى. نأى العالم عن جحيم الأوضاع. لا شيئ يكسر الروح الٳنسانية أكثر من الاطلاع على ما تعرّض له السوريون في سجون المزّة وصيدنايا وتدمر وعدرا… دخلت سورية في الطور الخامس (ابن خلدون) من اصطناع النظام إخوان السوء والبطانة والفساد وتجارة الكبتاغون (5 مليارات دولار)، فيما الناس في سجونهم، وأنّى لهم الملجأ. مارس الغرب في النظام الليبرالي العالمي ادّعاءات متعلّقة بالسيادة والحرّية، غالباً ما كانت غير متوافقة، أو غير قابلة للمقارنة أخلاقياً بالحقوق المدنية.
دفع السوريون، مثلهم مثل العراقيين واليمنيين والسودانيين والليبيين والتونسيين ثمن الاختيار المتّصل بوهم الاستقرار الاستبدادي، وتفضيله على الشكوك المحيطة بالتغيير الديمقراطي، فقد كانت واضحة المساعي لتعزيز الديمقراطية في كلّ مكان بعد سقوط جدار برلين (1989)، باستثناء الشرق الأوسط. من عميق المفارقات، أنه كلما طال أمد بقاء هذه الأنظمة، زادت احتمالات سقوطها. يمكن للأنظمة أن تصمد وعلى الدعم الأجنبي أن يفعل ذلك، ويستمرّ هذا النمط في تكرار نفسه، لأن صنّاع القرار السياسي يبدون غير قادرين على تصور بديل للشرق الأوسط. وينتهي الأمر عند المستبدّين بٳقناع العالم بأنه لا غنى عنهم. لكنّ الحقائق التي تبدو ثابتة لم تعد كذلك. لا يستطيع العالم أن يتظاهر بعد الآن بأن قصتة مع تلك الأنظمة مرّت من دون مناقشة حول أزمة الديمقراطية والليبرالية والقواعد القانونية في استخدام أدوات السلطة، وما يتعلّق بمستقبل الناس.
دفع السوريون، مثلهم مثل غيرهم من شعوب عربية الثمن المتّصل بوهم الاستقرار الاستبدادي، وتفضيله على الشكوك بالتغيير الديمقراطي
الخوف والأمل يلّونان المشهد في سورية في الوقت نفسه، بعد السقوط المذهل لبشّار الأسد، تتركّز الأنظار نحو الترتيبات الجديدة التي تتشكّل في دمشق، وعلى موقف القوى الاقليمية المؤثّرة، التي قد تلعب دوراً فيها، وقد أُعلِن فعلاً عن الفائزين والخاسرين في الساحة الجيوسياسية. وحسناً فعلت دول الخليج، حين أعلنت، في موقف متقدّم جدّاً، استبعاد أيّ خلاف، أو صراع، أو تنافس في سورية، ومواجهة أشكال التفكّك في المنطقة (صلح وستفاليا عربي)، وفق بيان مشترك، أكّد التنسيق والتضامن والتفاهم بين دول الاجتماع الوزاري الاستثنائي المنعقد حول الشأن السوري، في لحظة خليجية مهمّة من التاريخ العربي المعاصر. والسوريون بانتظار أن تعلن هيئة تحرير الشام تصميمها رؤىً وفِكَراً عن طبيعة الحلّ السياسي، وٳعادة عمل مؤسّسات الدولة، بما فيها الجيش والأمن، بالتوازي مع المصالحة الوطنية، والبحث عن المشاركة السياسية التعدّدية، لتجنّب الصراع الداخلي. العسكرة ما عادت خياراً مع وجود فصائل أجنبية، ومن المهم تأكيد الطابع السلمي وغير العنفي في استبدال قيم النظام السابق، وولادة نظام جديد مع حلفاء أقوياء من الفاعلين في المجال المدني أو السياسي الداخلي (المعارضة السورية منقسمة في الخارج بين الأهداف والآراء).
ٳن اعتبار مدركات الآخر الثقافية والدينية والديمقراطية شرط الضرورة في تنقية العلاقات مع المجتمع الدولي، وليست شرط كفاية من دون عدالة انتقالية وتنمية اقتصادية واجتماعية وزيادة الإنتاج وعدالة التوزيع. هذا يتطلّب توعيةَ السوريين بعدم المبالغة في توقّعاتهم، مع الضغوط السياسية والاقتصادية كلّها، ومع ما تتمناه ٳسرائيل كلّه، في عدوانيتها التوسّعية (التوسع الطبيعي) في تقسيم سورية، وغيرها، ٳلى جيوب طائفية صغيرة يسهل السيطرة عليها.