في احتمالات الصدام العسكري بين تركيا والاحتلال الإسرائيلي

مصطفى إبراهيم المصطفى

من بين المزاعم الأساسية لعلماء السياسة اعتقادُهم أنّ الأحداث ليست فريدة، وأنّ الظواهر السياسية لا تحدث عشوائيًا، بل تعاود الحدوث في أنماطٍ واتجاهاتٍ يمكن التعرّف عليها. وبالمقدور اكتشاف متشابهاتٍ محدّدة في مسلك الشعوب والأمم.

ولو صحّ أنّ هذه المزاعمَ زائفة، فلن يكون من المستطاع الاهتداءُ إلى أكثرَ من تفسيرِ كلّ حربٍ على حدة، وسيكون سببُ كلّ حربٍ مختلفًا. تلك المتشابهاتُ والأنماطُ المتكرّرة هي ما يستند إليه علماءُ السياسة لإطلاق تنبؤاتهم بخصوص الحرب والسِّلم، وهي ذاتها التي دفعت كثيرًا من منظّري العلاقات الدولية إلى استشعار الخطر المحدق بمنطقة الشرق الأوسط والتحذير من صداماتٍ عنيفةٍ محتملة.

قواعد الاشتباك في مهبّ الريح

يربط منظّرو العلاقات الدولية بين الاستقرار الدولي وتوازن القوى. وعلى مستوى الأقاليم يظلّ المفهومُ سارِيَ المفعول، بوصفه امتدادًا ــ بشكلٍ من الأشكال ــ للتوازن الدولي وتفاعلاته؛ فأيُّ تغيّراتٍ في موازين القوى على المستوى الدولي تجد صداها وارتداداتِها في أقاليم العالم. منذ نهاية الحرب الباردة حتى يومنا هذا، وبعد زوال المظلّات الأمنية التي كان يفرضها المعسكرانِ الغربيّ والشرقيّ، ما يزال توازنُ القوى في منطقة الشرق الأوسط يتعرّض لتقلّباتٍ توحي للمراقب أنّه توازنٌ مؤقّت وهشّ. ومع الحروب العديدة التي أطلقها الكيانُ الصهيونيّ بعد عملية «طوفان الأقصى» أصبح هذا التوازنُ في مهبّ الريح.

يفترض الصراعُ ــ عمومًا ــ وجودَ اتفاقٍ علنيٍّ أو ضمنيٍّ بين طرفيه، بما يعني ألّا يتجاوز الصراعُ حدًّا معيّنًا من العنف، وألّا يتجاوز قواعدَه وقوانينه الوضعيةَ والعرفيةَ (قواعدُ الاشتباك). وعندما يخرج الصراعُ عن هذا الإطار ويكون منفلتًا من كلّ القيود ــ كما يفعل الكيانُ الصهيونيّ اليوم ــ لا يمكن تصوّرُ نهايته بالسهولة التي يتخيّلها أو يتمناها الطرفُ المعتدي، حتى لو توقّفت الأعمالُ العسكرية. إنّ الرغبة الجامحة في التفرد بالهيمنة الإقليمية لدى الكيان الصهيوني، وقد اتخذت طابعَ العدوان والتنمّر على باقي القوى الإقليمية، سوف تُقابَل بتحالفِ قوى أخرى من أجل إعادة التوازن.

«الواقعيةُ الدفاعية» فترى أن النظام الدوليّ الفوضويّ (أي غياب سلطةٍ مركزيةٍ عليا) يدفع الدول إلى تبنّي سياساتٍ معتدلةٍ ومتحفّظة للحفاظ على أمنها وبقائها، لا لتعظيم قوّتها.

تنبؤاتُ “الواقعية الجديدة

يرى أنصارُ النظرية الواقعية في العلاقات الدولية قاعدةً صارمةً مفادُها: إنّ القوى الكبرى تتوازن ــ داخليًّا أو خارجيًّا أو كليهما ــ ضد الطامحين للهيمنة؛ فإمّا تلجأ لزيادة موارد قوتها (توازنٌ داخلي)، وإمّا إلى التحالفات (توازنٌ خارجي)، أو تفعل الأمرين معًا. ويستخلص الباحثون هذه القاعدةَ ممّا تقرّره نظريتا «ميزان القوى» و«الواقعية الدفاعية» (وهما من تفرّعات الواقعية الجديدة). فـ«ميزانُ القوى» يشير إلى أنّ الدول تضمن بقاءها بمنع قوةٍ من الهيمنة، إذ تتحد الدول الأضعف ضدّ الدولة الأقوى، ويكون النظامُ الدوليُّ أكثرَ استقرارًا عندما تتوزّع القوةُ أو تتوازنُ بين القوى العظمى.

أمّا «الواقعيةُ الدفاعية» فترى أن النظام الدوليّ الفوضويّ (أي غياب سلطةٍ مركزيةٍ عليا) يدفع الدول إلى تبنّي سياساتٍ معتدلةٍ ومتحفّظة للحفاظ على أمنها وبقائها، لا لتعظيم قوّتها. الهدفُ الرئيس للدول هو تحقيقُ الأمن والحفاظُ على الوضع القائم، وأنّ السعيَ المبالغَ فيه إلى القوة قد يرفع احتمالاتِ الصراع ويقوّضُ أمنها بدلًا من تعزيزه. وبذلك تشير هذه النظرية إلى السياسة العقلانية لمعظم الدول التي تتجنب سلوكًا يُدخلها في ما يُعرف في أدبيات العلاقات الدولية بـ«معضلة الأمن».

معضلة الأمن

يقول هنري كيسنجر: «إذا تمتّعتْ قوةٌ ما بالأمان المطلق، فسيسفر ذلك عن تعرّض جميع القوى للخطر». تدور معظمُ أطروحات الواقعية حول هذه الفكرة. ويمكن القول ــ بلا تردّد ــ إنّ الكيانَ الصهيونيّ يخوض حاليًّا مغامرةَ الوصول إلى «الأمان المطلق»، بما يجعل جميعَ القوى التي طالها التنمّرَ ــ وهي عمليًّا جميعُ الوحدات الدولية في محيطه الإقليمي وربما أبعد ــ تشعر بالخطر، فتتّجه إلى مزيدٍ من التسلّح والاستعداد للحرب دفاعًا عن النفس أو سعيًا لفرض حالةٍ من توازن القوى.

إنّ دخول القوى في سباقِ تعظيمِ القوة يُدخلها في «المعضلة الأمنية»: حيث تتخذ دولةٌ ما إجراءاتٍ لزيادة أمنها (تعزيزٌ عسكريّ، تمسّكٌ بخيارات السلاح، عقدُ تحالفات)، فتتخذُ دولٌ أخرى الإجراءاتِ ذاتَها ردًّا عليها، فيرتفع التوتّر ويُخلق الصراع، وإن لم يرغب أيُّ طرفٍ فيه حقًّا.

إنّ الصدامَ قادمٌ لا محالة. لكنّ نظرياتِ العلاقات الدولية عمومًا ــ والواقعيةَ خصوصًا ــ تُعنى غالبًا بتفسير السلوك الدوليّ على مستوى النظام العالميّ والقوى العظمى؛ ولذا فهي تصلح جزئيًّا للتنبؤ بسلوك الدول في الصراعات الإقليمية.

مظاهر التصعيد

لقد تجاوز الكيانُ الصهيونيّ مرحلةَ استعراض القوة إلى مرحلةِ التنمّر. وفي المقابل، فإنّ ردودَ الأفعال التركية تُظهر ــ بما لا يدع مجالًا للشك ــ أنّ الأطراف دخلت أجواءَ «المعضلة الأمنية»: فتركيا تستعرض يوميًّا قدراتٍ جديدةً في التجارب الصاروخية والطيران الحربي والمسيَّر، مع خططٍ لإقامة ملاجئ تحسّبًا لحربٍ محتملة؛ وكلّها رسائلُ موجّهةٌ بالدرجة الأولى إلى الكيان الذي يُعربد في المنطقة من دون رادع. وعلى مستوى آخر، تبدو أنقرةُ ساعيةً إلى تعزيز تحالفاتها القديمة، وحشدِ دولٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ للوقوف إلى جانبها في مجابهة الكيان الصهيوني.

ومنذ أسابيع قليلة، وعلى أثر تصريحات نتنياهو عن «إسرائيل الكبرى»، أصدرت إحدى وثلاثون دولةً عربيةً وإسلامية، إلى جانب الأمناء العامّين للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي، بيانًا مشتركًا ضدّ إسرائيل. وشدّد البيانُ على أنه «في الوقت الذي تؤكّد فيه الدولُ العربية والإسلامية احترامَها للشرعية الدولية وميثاقِ الأمم المتحدة، ولا سيّما المادةَ (2/فقرة 4) المتعلّقة برفض استخدام القوة أو التهديد بها، فإنّ هذه الدول ستتّخذ كافةَ السياسات والإجراءات التي تُؤطّر للسلام وتكرّسه، بما يحقّق مصالحَ جميع الدول والشعوب في الأمن والاستقرار والتنمية، بعيدًا عن أوهام السيطرة وفرضِ سطوة القوة».

نظريًّا يمكن القول إنّ الصدامَ قادمٌ لا محالة. لكنّ نظرياتِ العلاقات الدولية عمومًا ــ والواقعيةَ خصوصًا ــ تُعنى غالبًا بتفسير السلوك الدوليّ على مستوى النظام العالميّ والقوى العظمى؛ ولذا فهي تصلح جزئيًّا للتنبؤ بسلوك الدول في الصراعات الإقليمية التي تبقى ــ في الأغلب ــ واقعةً تحت تأثير القوى الكبرى ضبطًا وتوجيهًا وربما تحكّمًا. لذلك نرى أنّ احتمالاتِ التفاهم والتهدئة أقربُ بكثير من احتمالات الصدام. وفي نهاية المطاف، قد يكفي لخفض التوتّر الإطاحةُ بحكومة نتنياهو المتطرّفة والإتيانُ بحكومةٍ لديها رغبةٌ في المهادنة وسحبِ فتيل التصعيد.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى