المنفى والسلطة.. تذكرة عودةٍ بلا مقعد

عمار تباب

بعد سنواتِ التّيه القاتل، وعلى بوابةِ القدوم تتزاحم الأختام وتختلط الأوراق وتتراكب الجوازات في حقائبهم وجيوبهم، تماماً كما تتزاحم الصور والذكريات في قلوبهم بعد غياب جائر حفر خنادقه في قلوبهم وعلى تجاعيد وجوههم، قلوبِ ووجوه العائدين إلى سوريا.

جوازات أطلقتهم في رحلة التيه، وأُخرى منحتهم فرصةً من حياة في أوطانٍ ما ألفوها، جوازات سفرٍ كان التنازعُ بينها على نافذة القدوم الصغيرة قائماً على مقدار ما يحمله كلٌّ منها من قصص وحكايات وآلام وأحلام، لينتهي الجدل الداخلي بتقديم الجواز السوري إلى النافذة والتي بختمها للعقاب السوري ستعلن نهاية الحكاية التي امتلأت تفاصيلها بمختلف أنواع القهر قتلاً ونفياً وتهجيراً ويُتماً.

طيورٌ مهاجرةٌ حملها الواجب لبناء وطنٍ ما فارق خيالاتها بأصواته وأضوائه وهتافاته وأزقته وآلامه ودندناته، تماماً كما وصفه نزار:

كأنّ مآذن الأمويّ … قد زُرعت بداخلنا

كأنّ الضوء والأحجار … جاءت كلّها معنا

ولكن ..

سُرعان ما انطفأت الرومانسية التي كانت تُشعِلُ قلوبهم، حين وجدوا أنفسهم مواطنين من درجةٍ ثانيةٍ تتقدمُ أقاربهم الذين يرون فيهم عابرين إلى جنة العالم الأول وبرِّ الأمان، بينما تتأخر عن درجةِ دائرة السلطة التي لا ترى فيهم إلّا خزاناً مالياً ومجموعةً من (Fans) لا يحق لهم إلا التصفيق والإعجاب بعيداً عن المشاركة الفعلية في إدارة -الدولة الحلم- لاتهام أصبح يلطخ سجلاتهم تحت اسم الولاء المزدوج!

إنَّ القضية المطروحة وإن كانت ضيّقة، إلّا أن النظر إليها كجزء من فسيفساء وطنٍ تتساقط أجزاؤها واحدة تلو الأخرى مرّةً لدواعٍ أمنية وأخرى لدواعٍ ولائية.

ليس بدعاً من القول أن يأتي الحديث عن الولاء المزدوج على لسان السيد الأحمد، رئيس اللجنة العليا للانتخابات بقوله (للجميع الحق بالترشح ولكن مع التزام من يصل إلى سدّة مجلس الشعب بالتخلي عن جنسيته الأخرى)، فهناك العديد من الأمثلة الدولية التي ترى أنّ صفاء الولاء لا يأتي إلا من جهة الجنسية المنفردة.

ولهذا فلا بدّ من طرح السؤال بصيغةٍ مباشرةٍ للإجابة عنه أو محاولة ذلك: هل يشكل ازدواج الجنسية مانعًا قانونيًا مشروعًا يحول دون تولي المناصب التمثيلية أو سواها؟ وهل تعتبر الجنسية الوحيدة دليلاً كافياً على صفاء الولاء؟ أم أن الجنسية الثانية تظل وصمة تُثير الشكوك في الولاء السياسي؟

إنَّ القضية المطروحة وإن كانت ضيّقة، إلّا أن النظر إليها كجزء من فسيفساء وطنٍ تتساقط أجزاؤها واحدة تلو الأخرى مرّةً لدواعٍ أمنية وأخرى لدواعٍ ولائية، ناهيك عن حجب الثقة عن مكوناتٍ استعادت حقّها بالجنسية مع انطلاق الثورة في 2011 لدواعٍ غير مسمّاة. كلُّ ذلك يجعلنا أمام لوحةٍ مشوّهةٍ لفسيفساء وطن.

إنّ الاستناد إلى الممارسات الدولية أو الفقه القانوني المنتشر في بعض الدول والذي تعتمده اللجنة أو رئيسها على الأقل، لا يمثل أساساً قانونياً سليماً في الوقت الذي يُسلخ فيه الحكم عن حيثياته وتداعياته.

رغم الإيجابيات الوهمية التي يتحلى بها الرأي القانوني القائل بالمنع الحتمي لازدواج الجنسية في المناصب التمثيلية، مثل صفاء الولاء ووضوح الهوية وتقليل التدخلات الأجنبية. فإن التأصيل له في الإطار السوري أمر مشكل للغاية، وسلبياته تتجاوز إيجابياته الوهمية بأضعاف، ففي الوقت التي تسعى فيه سوريا للحصول على نجاحاتٍ اقتصادية هنا وهناك ستكون بمثل هذه الآراء قد خسرت كفاءات أبنائها، بجنسياتهم التي يحملونها، والتي تُعدُّ خزان ثروةٍ ربما تضاهي كلَّ ما تحتويه الأرض السورية من ثروات فيما لو تمكنت السلطة من استثماره.

إنّ تراكم القرارات السلبية دون دراسةِ جدواها، سيخلق تشويشاً في نظرة عموم الشارع السوري إلى تصرفات السلطة وقراراتها، ما سيعودُ على الواقع -بنظر البعض- بمزيد من التحصين للسلطة مقابل الشعب الذي يمثل القاعدة الأساسية للنضال المستمر في سبيل سوريا القانون والعدالة.

من الناحية الشكلية والقانونية فإن الرأي الذي تمَّ عرضه على لسان رئيس اللجنة جاء مخالفاً لصريح المرسوم التشريعي رقم 143 الذي صدّره الرئيس أحمد الشرع والذي لم يتعرض به إلى مثل هذا المانع، أو الشرط. بل إن الشرط بحدِّ ذاته إنما يستند إلى تشريعات حقبة الأسد بكل سوادها.

تنصّ معظم الدساتير الدولية والمواثيق العالمية على أن لكلِّ مواطن الحق في المشاركة بالحياة السياسية من دون تمييز، وهو ما ورد في الإعلان الدستوري بعد انتصار الثورة، إضافة إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان كشريحة بحثية ذات صلة، وإنّ حرمان مزدوجي الجنسية من تولي مناصب تمثيليةٍ يعتبر تمييزاً قائماً على وضع قانوني شخصي وهو ما يتعارض صراحةً مع المبدأ الدستوري والقانوني المشار إليه.

إنّ الولاء الحقيقي ليس في ختمٍ جافٍّ على ورقة رسميةٍ باردة، بل هو انتماء لفكر وتاريخٍ وحضارة وأخلاقيات تحمي بمجموعها الوطن وتصون الدولة.

من جانبٍ آخر فإن المشاركة السياسية ليست امتيازاً تمنحه الدولة، بل هي حق دستوري أصيل مرتبط بصفة المواطنة التي لا يمكن إلغاؤها أو الانتقاص منها بصفة عارضةٍ متمثّلةٍ بالجنسية الثانية.

واستطراداً في الدفاع عمّا نقدّم، يمكننا الإشارة إلى أنّ الفقه القانوني والأصولي يرتكز على قاعدةٍ فقهية تتجلى بمبدأ التناسب والضرورة، وفيما لو أردنا إسقاط ذلك على السؤال مدار البحث، فإن شبهة ازدواج الولاء تستدعي من المشرّع تقييد الحق لا الحرمان الشامل منه، بمعنى أن يتم تصنيف المناصب تصنيفاً يضيّق من دائرة الحرمان لا أن يوسّعها. فأي تقييد للحقوق يجب أن يكون متناسباً وضرورياً مع الهدف، وهذا ما يفتقده الرأي القائل بالمنع المطلق.

إنّ ما نقول به، يفتح الباب أمام الجميع للمشاركة في إدارة البلاد، وهو لا يعتمد على النصوص فحسب بل إن منطق العدالة الانتقالية التي تعتبر المطلب الأساس للسوريين والتي لن تتمَّ إلا بتحقيق المصالحة والمشاركة ومعالجة الانتهاكات التي كرّسها الأسد، وباعتبار أن غالب السوريين الذين يحملون جنسيات أخرى ما هُم إلّا ضحايا لجرائم التهجير القسري المنتهجة على مدار سنوات الثورة، فإنّ منعهم من المشاركة الفاعلة يعتبر مانعاً أمام شمولية العدالة الانتقالية المنتظرة.

إن الجدل هنا لا ينحصر في الإطار القانوني بل يتجاوزه ليصل إلى الحديث عن جوهر المواطنة نفسها وطرق اختبارها، فهل تقاس المواطنةُ بالهوية الرسمية أو بخاتمها على ورقةٍ فحسب، أم بالولاء العملي للأرض والقيم والتاريخ والحضارة؟

والغريب أن الإدارة أو بعض وجوهها على الأقل يملكون من السفسطة الكلامية ما يستطيعون من خلاله التأصيل لقضية الولاء بوجهين مختلفين، الأمر الذي يمكن قراءته برأيهم حول المجاهدين الأجانب. وتسليمهم مناصب حسّاسة في وزارة الدفاع أو غيرها، من دون النظر في قضية الولاء التي تُثار بوجه أصحاب الدار!

كسوريين ومثقفين ومطّلعين على التاريخ المتقلّب بأهله، لا نرى في دمج المقاتلين الأجانب بل وحتى تجنيسهم، مشكلاً أخلاقياً بل ربما نسعى للمطالبة لهم به فيما لو حققوا شروطه التي لا بدّ أن تلتزم حماية الوطن وقوانينه وأهله، ففي التاريخ والممارسات الدولية ما يعزّز ذلك ويدعمه سواء في التاريخ الحديث أو الإسلامي -الذي يمثل نقطة التقاء واسعة في البعد النظري للحديث مع ممثلي الإدارة- وحججٍ لا تنحصر بقوله صلى الله عليه وسلم (سلمان منّا آل البيت) ولا تنتهي بالمماليك الذين حُفِظَت أسماؤهم في عناوين تاريخنا ومتونه لا في هوامشه.

ولكن الإشكالية الكبرى تقع في ازدواجية المعايير في التعاطي مع الولاء المتعلق بالمجاهدين وبين أصحاب الدار من السوريين الذين يُطلب منهم دفع فاتورة إعادة الإعمار من عرقهم وعمرهم وتاريخهم وأوطانهم، في الوقت نفسه الذي يُمنَعون فيه من المشاركة في بعض المناصب التمثيلية سنداً لتهمة الولاء المزدوج التي تجاوزتها العديد من الدول بما فيها الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة لتفسح المجال أمام الجميع في المشاركة، يعكس تطور الفقه الدستوري في النظر إلى الولاء العملي لا النظري. فازدواج الجنسية ليس مانعًا طبيعيًا للمشاركة السياسية، طالما أن الفرد ملتزم بالقيم الوطنية والمصلحة العامة.

كيف تمنحني هذه الدول حقّ المشاركة في برلماناتها، بينما يمنعني وطني الأم من ذلك ؟!

إنّ الولاء الحقيقي ليس في ختمٍ جافٍّ على ورقة رسميةٍ باردة، بل هو انتماء لفكر وتاريخٍ وحضارة وأخلاقيات تحمي بمجموعها الوطن وتصون الدولة، وعليه فلا بدَّ على كلِّ تشريع أو قانون سواء اختلفنا أم اتفقنا في طريقة إصداره أو مبرراته، أن يسعى للتوءَمة والموازنة بين الحقِّ والواجب، بين حقّ الدولة في حماية سيادتها وحقّ المواطن في التمتّع بكامل حقوقه السياسية، بين واجب الدولة في حماية حقوق مواطنيها وواجب المواطن في دفع فاتورة البناء وإحياء ذاكرته المصلوبة على ميزان العدالة.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى