
أعلن برنامج الأمم المتحدة للغداء، في الـ22 من الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، أن غزّة تعاني من مجاعة. وهي المرّة الأولى التي يُعترف فيها رسميّاً بهذه الحقيقة المؤلمة. وقد جاء هذا الإعلان، على أهميته، متأخّراً، حسب خبراء عديدين. ولكن أن يأتي الشيء متأخّراً أفضل ألف مرّة من عدمه.
يحرص الكيان الإسرائيلي، بعد نحو سنتين، من حربه البشعة على غزّة على تنويع مصادر فتكه بالفلسطينيين، بعد أن جرّب تقريبا كل الأشكال، حتى الأكثر فظاظة ووحشية. بدأ هذا المسار بـ”القتل الكلاسيكي” من خلال الاشتباكات المسلحة مع تشكيلات مختلف حركات المقاومة، ومنها حماس والجهاد الإسلامي، ثم توسع القتل ليشمل المدنيين من خلال القصف الهمجي عل الأحياء السكنية، بنية إحباط العزائم ليشمل اغتيال القادة من دون نسيان قصف المؤسّسات المدنية، بما فيها المدارس والمستشفيات، حتى وصل خيالها إلى اعتماد التجويع. ولكن عواقب وخيمة كانت للقتل العبثي والهمجي الذي أودى بحياة نحو 63 ألفاً، من دون اعتبار الجرحى، على صورة القاتل، فقد انتفض الشارع في بلدان غربية عديدة احتجاجا على استهداف الأطفال والنساء والمدنيين عموماً، ما أحرج إسرائيل أولاً التي بدأت قوة عسكرية غاشمة تقتل الأبرياء في غير تناسب مع هجوم “حماس”، حتى ولو صدّقنا الرواية الإسرائيلية التي لم تصمد طويلاً. لقد أمعنت إسرائيل في نسف أدنى مقوّمات الحياة بالمعنى البيولوجي في غزّة، فوجدت في التجويع ضالّتها.
ورغم أن هذه الحرب غير المتكافئة تميل عسكرياً لصالح إسرائيل، إلا أن هذا لم يمنعها من استعمال وسائل بطش محرّمة دولية، على غرار تدمير شبكات الماء والري والكهرباء، حتى على المرافق الصحية وإتلاف شبكة الماء الصالح للشرب والدواء، في حصار محكم حال دون وصول المساعدات.
أخضعت إسرائيل القطاع إلى حصار صارم وجائر منذ أكثر من 18 سنة
وقد أعلنت منظمّات الأمم المتحدة، اعتماداً على ما يعرف بـ “الإطار المرجعي لتصنيف الأمن الغذائي”، أن منطقة غزة “جائعة”، وهو تصنيفٌ، بقطع النظر عن دقة مؤشراته، معترفٌ به دوليّاً لموضوعيّته وحياديّته، لكن الكيان الإسرائيلي سارع إلى التشكيك في ما ورد فيه، متّهماً هذه الهيئات الأممية بالانحياز إلى الفلسطينيين. وقد ذكرت هذه المنظّمات في أحدث تقاريرها أن ما يفوت نصف مليون من سكّان القطاع بلغوا الدرجة الخامسة من المجاعة، وهي أرفع الدرجات وأخطرها، معلنة بذلك تحوّل المجاعة إلى كارثة غير مسبوقة. لم تكترث إسرائيل بكل هذه التحذيرات، وتمادت في غيّها، وهي التي وجدت من أيّدها وتواطأ مع أشكال التقتيل الأكثر بشاعة وضراوة، والتي تجري تحت أعين العالم.
جاء الإعلان الرسمي عن المجاعة متأخّراً، فالمجاعة بدأت تزحف على قطاع غزّة مند بدء الحصار سنة 2007، فكيف يمكن أن يلبّي السكان، وعددهم يفوق المليونين وربع المليون، حاجاتهم الغدائية والقطاع منذ ذلك التاريخ… وهي منطقةٌ تكاد تكون مواردها الغدائية الذاتية منعدمة، لأسباب عدّة، لعل أهمها ضيق المساحة الزراعية مقارنة مع عدد السكان، وإيقاف كل أشكال توريد البذور والأسمدة والأدوية، فضلاً عن ظروفٍ أمنية، تمنع المزارعين من ممارسة أنشطتهم الزراعية.
سيُنظر إلى إسرائيل صانعة الجوع القاتل لمئات آلاف الأبرياء، بعد الإعلان الأممي عن المجاعة في غزّة
يفيد التجويع تسليط إدارة قوة على طرف ضعيف (فرداً أو جماعة) من أجل حرمانه الكلي أو الجزئي من حاجاته الغذائية الأساسية. لقد أخضعت إسرائيل القطاع إلى حصار صارم وجائر منذ أكثر من 18 سنة. ولنتصوّر أن طفلاً ولد عند بدء الحصار، وقد غدا شابّاً، والحصار ما زال يمنع عنه الغذاء، فضلا عما يرافق هذا المنع من مواد أخرى، على غرار المحروقات وبعض المواد الأخرى التي تكون من عناصر تصنيع الغذاء، على غرار المعجّنات والمصبّرات الغذائية. وقد تفاقم الأمر بعد حرب أكتوبر 2023 التي دمّرت ما سمي “اقتصاد الأنفاق”، علاوة على تدمير كل مقومات الحياة الغذائية، على غرار المخابز وورشات تصنيع الغذاء، حتى لو كانت التقليدية والبسيطة منها، ولم تنجُ من ذلك مخازن المنظمّات الخيرية والإسعافية، بما فيها الأممية، في ظل منعٍ متواصلٍ لكل أشكال المساعدات، حتى أن القليل الذي تمكّن من الدخول، بعد ضغط دولي شديد من حين إلى آخر، تحوّل إلى مصيدة وفخٍّ لقتل عشرات المتدافعين على لقمة العيش.
منعت إسرائيل كل أشكال الاستجابة التي طالبت بها هيئاتُ إغاثة عالمية عديدة، على غرار “أونروا”، وبرنامج الأمم المتحدة للغذاء والصليب الأحمر الدولي و”يونيسف”، طوراً بشكل مباشر وطوراً آخر بتعريضها للمخاطر. وقد قتل عشرات من أفراد طواقمها ودمّرت مخازنها. يحتاج مليونان من الأطفال في غزّة مساعداتٍ غذائية عاجلة، حسب صيحة منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف). ادّعت إسرائيل أن ما ترتكبه من قتل وتدمير جزء من “دفاع شرعي”. لم يصدقها أحرار العالم، وأصبحت دولة كريهة ومنبوذة اكثر من أي وقت مضى، وسيُنظر إليها صانعة الجوع القاتل لمئات آلاف الأبرياء، بعد الإعلان الأممي عن حلول المجاعة في القطاع.
المصدر: العربي الجديد