
وراء كل جناح في معرض دمشق الدولي، يعمل عشرات الشباب في مهام غير مرئية، البعض مسؤول عن الإضاءة والتجهيزات الفنية، وآخرون عن الاستقبال وتنظيم الحشود
عند المدخل الرئيس لمعرض دمشق الدولي، تقف ريم ممسكة خريطة مطبوعة للمعرض، تحاول من خلالها أن ترشد الزوار إلى الأجنحة التي يقصدونها، وإلى جوارها يقف بشار يشاركها مهمة البحث على الورقة ذاتها، في حين يحيط بهما ثلاثة زوار يسألون عن جناح محدد، تبدو الملامح الطلابية واضحة على وجوههم، فهم في الغالب من أبناء الجامعات الذين جاؤوا إما للتطوع في تنظيم المعرض أو للاستفادة من خبرة المشاركة فيه.
وعلى الجانب الآخر، كانت لين، الطالبة الجامعية في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، والبالغة من العمر 21 عاماً، تستقبل الزوار في جناح إحدى الشركات غير السورية، وتشرح للزائرين نشاط الشركة وتشرح عن منتجاتها.
لم تكن لين وحدها في هذا الدور، بل مثلها عشرات من الشباب الجامعيين الذين شكّلوا العمود الفقري لحركة المعرض، يتوزعون بين الاستقبال، والإرشاد، والتعريف بالشركات، وحتى الترجمة الفورية عند الحاجة.
هؤلاء الشباب، الذين يأتون من تخصصات جامعية مختلفة، لا يقتصر حضورهم على العمل التطوعي فحسب، بل ينظرون إلى مشاركتهم كفرصة لاكتساب خبرة عملية وتعزيز سيرهم الذاتية، فضلاً عن كونها مساحة للتعارف وتبادل التجارب.
في أروقة المعرض يلحظ الحماس على وجوههم، إذ يتحركون بخفة بين الأجنحة، يجيبون عن الأسئلة، ويقرّبون المسافات بين العارض والزائر، ورغم أن معرض دمشق الدولي يُعرَف تقليدياً بأنه أكبر منصة اقتصادية وتجارية في سوريا، حيث تجتمع الشركات المحلية والدولية لعقد الصفقات والترويج للمنتجات، إلا أن خلف هذه الصورة الرسمية تجد عشرات الشبان والشابات الذين لا ينظرون إلى المعرض باعتباره حدثاً اقتصادياً فحسب، بل كفرصة عمل مؤقتة أو بوابة لاكتساب خبرة عملية قد تُمهّد لمستقبلهم المهني.
في دورته الثانية والستين، تحوّل المعرض إلى أشبه بمختبر حيّ يختبر فيه هؤلاء طاقاتهم، ويجربون التحديات الحقيقية لسوق العمل.
من الجامعة إلى المعرض
تقول سارة، طالبة في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، لموقع “تلفزيون سوريا، إن مشاركتها في جناح إحدى الشركات التركيّة لم تكن مجرد عمل جزئي لكسب بعض المال، وتضيف “هذه أول مرة أتعامل مباشرة مع جمهور واسع وأسئلة متنوعة، كنت أقرأ عن استراتيجيات التسويق، لكن هنا وجدت نفسي أمام تجربة حيّة، أقنع الناس، أقدّم الشرح، وأتعامل معهم بالمباشر”.
قصة سارة تتكرر مع عشرات الطلاب الذين اختاروا أن يستثمروا أيام المعرض لتجربة أجواء المهنة، قبل أن يتخرجوا ويدخلوا سوق العمل بشكل كامل، فبالنسبة لهم، يشكل المعرض منصة تدريبية لا تقل أهمية عن قاعات الجامعة.
اللافت أنّ طبيعة العمل داخل المعرض لا تقتصر على التخصصات النظرية، بل تمتد لتشمل مهارات متعددة، من خدمة الزوار، إلى الترجمة، إلى تنظيم الفعاليات والعلاقات العامة،
يشرح مروان العبد الله، لموقع تلفزيون سوريا، أنه خريج حديث من كليّة الآداب قسم الترجمة، وعمل مترجماً في جناح لشركة أجنبية مشاركة، ولم يكن يتوقع أن يستخدم لغته الإنجليزية بهذه الكثافة، في يوم واحد مرّ أمامه زوار من جنسيات، وكان عليه أن ينقل الأفكار بسرعة ودقة، يقول “شعرت وكأنني في دورة تدريبية مكثفة لا يمكن أن أجدها في أي مكان آخر”.
إلى جانب اللغة والتسويق، يكتسب الشباب مهارات في التواصل وإدارة الوقتٍ والعمل ضمن فرق متنوعة، وهي عناصر أساسية يحتاجها أي موظف في المستقبل.
الدخل الإضافي… محفّز مهم
إلى جانب الخبرة، لا يمكن إغفال الجانب المادي. فالكثير من المشاركين يتلقون رواتب أو مكافآت رمزية، فبالنسبة لشاب مثل أنس، طالب هندسة معلوماتية، فإن ما يجنيه من المعرض يساعده في تغطية جزء من نفقاته، حيث يقول إنّ الراتب ليس كبيراً، لكنه يغطي مصاريفه الشخصيّة، والأهم أنه يتعلم ويبني شبكة علاقات، وقد التقى برجال أعمال ومسؤولين لم يكن يحلم أن يقترب منهم.
هذا البعد المالي يجعل المعرض مساحة جذابة للطلاب، خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، حيث يصبح أي دخل إضافي ذا قيمة كبيرة.
كواليس في المعرض
وراء كل جناح مصمم بدقة، يعمل عشرات الشباب في مهام غير مرئية، البعض مسؤول عن الإضاءة والتجهيزات الفنية، وآخرون عن الاستقبال وتنظيم الحشود، وهذه الأدوار الخلفية تعلّم الشباب معنى المسؤولية والانضباط، حتى لو لم تحظَ بالأضواء.
تقول زهى بركات، طالبة في كلية الإعلام “عملتُ ضمن فريق التنظيم، مهمتنا كانت توجيه الزوار إلى الأجنحة وتسهيل حركتهم، قد يبدو الأمر بسيطاً، لكنه يحتاج إلى صبر وقدرة على التعامل مع ضغط الزحام”.
من جانب آخر، تنظر بعض الشركات إلى هذه التجربة كفرصة لاختيار موظفين محتملين، إذ يقول بسام قاسم، مدير الموارد البشرية في شركة محلية، لموقع تلفزيون سوريا، إنّ “المعرض بالنسبة لنا ليس فقط لتسويق منتجاتنا، بل لاكتشاف الطاقات الشابة، فكثير ممن عملوا معنا في أجنحة المعرض في سنوات سابقة التحقوا لاحقاً بوظائف دائمة عندنا، ونحن نعتبره اختباراً واقعياً أفضل من أي مقابلة عمل”.
بهذا المعنى، يتحول المعرض إلى ما يشبه “مكتب توظيف غير رسمي”، حيث تتقاطع مصالح الطلاب الباحثين عن فرصة، والشركات الباحثة عن كفاءات جديدة.
ويمكن القول إن معرض دمشق الدولي في دورته الـ62 لم يكن فقط ملتقى للتجار والدبلوماسيين، بل أيضاً مسرحاً اجتماعياً يعكس تطلعات جيل كامل من الشباب، ففي زمن تكثر فيه التحديات الاقتصادية وفرص العمل المحدودة، يقدّم المعرض تجربة مركبة، عمل مؤقت، تدريب عملي، دخل إضافي، وتواصل مع السوق الحقيقي.
10 آلاف فرصة عمل وفرها المعرض
يقول مدير العلاقات العامة في معرض دمشق الدولي في دورته الثانية والستين لموقع “تلفزيون سوريا” إن هذا الحدث لا يُعد مجرد تظاهرة اقتصادية وتجارية، بل يمثل انعكاسًا لتاريخ سوريا العريق ودورها الثقافي والحضاري في المنطقة. وأوضح أنّ المعرض شهد مشاركة واسعة تجاوزت 800 شركة محلية وعالمية، من بينها نحو 225 شركة أجنبية، مشيرًا إلى أنّ حضور هذا العدد الكبير من الفعاليات الاقتصادية يثبت المكانة التي يتمتع بها المعرض على المستويين الإقليمي والدولي.
وأضاف أنّ المملكة العربية السعودية حلّت ضيف الشرف لهذا العام، في حين جاءت الجمهورية التركية في المرتبة الثانية من حيث حجم المشاركة، مؤكّدًا أنّ المشاركة شملت أكثر من 40 دولة من مختلف أنحاء العالم.
ولفت إلى أنّ أعمال التجهيز والتحضير للمعرض أسهمت في توفير أكثر من 10 آلاف فرصة عمل، الأمر الذي انعكس بشكل مباشر على الحركة الاقتصادية الداخلية، مشددًا على أنّ مثل هذه الفعاليات لا تقتصر على الجانب الترويجي فحسب، بل تُسهم في تنشيط الأسواق المحلية وتحريك عجلة التجارة.
وختم حديثه بالتأكيد على أنّ معرض دمشق الدولي في نسخته الـ62 يشكّل جسر تواصل بين الشركات السورية ونظيراتها الأجنبية، وفرصة حقيقية لعقد الشراكات الاستثمارية، الأمر الذي يرسّخ موقع سوريا على خريطة المعارض الدولية.
عندما ينتهي المعرض، ستبقى التجربة محفورة في ذاكرة الشباب الذين شاركوا فيه، بالنسبة لبعضهم ربما لا يتجاوز الأمر مكسباً مادياً مؤقتاً، لكن بالنسبة لآخرين، قد يكون الشرارة الأولى لمسار مهني طويل، وبينما يظل المعرض حدثاً اقتصادياً كبيراً في الظاهر، فإن أحد وجوهه الخفية والأكثر إنسانية هو ذلك الأثر العميق الذي يتركه في حياة الشباب السوريين الباحثين عن مستقبل أفضل.
المصدر: تلفزيون سوريا