
يعدُّ نقد الدولة ظاهرة متجذِّرة في كلِّ التحوُّلات السياسية الكبرى التي تشهدها المجتمعات الخارجة من النزاعات أو الانتقالات الثورية، وفي الحالة السورية فإنَّ تشكُّل ما يمكن تسميته بالدولة الجديدة بعد سنوات طويلة من الحرب والانقسام السياسي والاجتماعي أوجد بيئة مضطربة حملت في طياتها حاجة ملحَّة لإعادة التفكير في السلطة والدور العام وآليات إعادة الإنتاج الرمزي للنخب الثقافية والسياسية.
إنَّ النقد في هذا السياق لم يقتصر على مساءلة السلطة أو تفكيك بنيتها، وإنَّما تحوَّل في كثير من الأحيان إلى وسيلة للظهور، وإلى قناة تتيح للأفراد والمجموعات الحصول على اعتراف اجتماعي وثقافي وسياسي يكرِّس حضورهم في الفضاء العام. ويمكن فهم هذه الظاهرة عبر تحليل العلاقة بين النقد والدولة من منظور سوسيولوجي يتجاوز البعد السياسي، ما يجعل النقد ممارسة اجتماعية تسهم في إنتاج الشرعية وإعادة ترتيب علاقات القوة بين الدولة ومختلف الفاعلين في المجتمع.
إنَّ هذه الظاهرة تحمل أبعاداً معرفية وسياسية في آن معاً، فمن الناحية المعرفية يضعف النقد الذي يتحوَّل إلى وسيلة للظهور قيمة التحليل العميق، ويشجِّع على الخطاب الشعاراتي الذي يفتقر إلى الأسس المنهجية.
لقد ترافقت نشأة الدولة السورية الجديدة مع تحوُّلات جذرية في بنية الحقل الإعلامي والفكري، حيث وفَّرت شبكات التواصل الاجتماعي ومنصَّات الإعلام الرقمي مسرحاً مفتوحاً سمح للفاعلين بتوظيف خطاب نقدي موجَّه إلى الدولة؛ لإعادة صياغة صورتهم أمام جمهور واسع يبحث عن بدائل ومعارضات ورموز فكرية جديدة. وهنا يصبح النقد أداة استراتيجية للتموضع، إذ إنَّ حضور الناقد في المجال العام يتوقَّف على قدرته على صياغة خطاب يتسم بالحدَّة والرفض ويستجيب لتوقعات جمهور يتعطَّش لمواقف معارضة بغض النظر عن مضمونها التحليلي أو قوتها البرهانية. وهذا ما يفسِّر كثافة الأصوات التي برزت بعد إعلان مشاريع الدولة الجديدة في سوريا، حيث سعى كثيرون إلى إثبات حضورهم في المشهد العام عبر تبنِّي مواقف نقدية متشدِّدة تحوَّلت إلى وسيلة لإنتاج الاعتراف الاجتماعي وتحصيل موقع يضمن لهم البقاء في دائرة الضوء.
إنَّ غياب المؤسسات والمرجعيات الموحَّدة في الدولة الجديدة يجعل من الخطاب العام ساحة تنازع بين سرديات متضاربة، ومن ثمَّ فإنَّ الناقد الذي يوجِّه سهامه إلى الدولة يجد نفسه في موقع يجذب الانتباه؛ لأنَّه يقدِّم نفسه باعتباره حارساً للقيم العامة أو ممثِّلاً لصوت الشعب في مواجهة سلطة لم تكتمل شرعيتها بعد. وبذلك يصبح النقد أداة لاكتساب الاعتراف الاجتماعي أكثر من كونه وسيلة لإحداث تغيير موضوعي في السياسات العامة. وفي ضوء ذلك يمكن القول إنَّ جزءاً كبيراً من الحراك النقدي في سوريا ما بعد الحرب يندرج ضمن ما يسميه علماء الاجتماع بـ “اقتصاد الاعتراف” حيث تتحوَّل الكلمات والمواقف لبناء رأس مالٍ اجتماعي وثقافي يفتح للناقد أبواب النفوذ والتأثير.
إنَّ هذه الظاهرة تحمل أبعاداً معرفية وسياسية في آن معاً، فمن الناحية المعرفية يضعف النقد الذي يتحوَّل إلى وسيلة للظهور قيمة التحليل العميق، ويشجِّع على الخطاب الشعاراتي الذي يفتقر إلى الأسس المنهجية، ما يؤدِّي إلى تراجع مستوى النقاش العام وتحوُّله إلى ساحة استعراض أكثر من كونه مجالاً لإنتاج المعرفة. ومن الناحية السياسية يخلق هذا النمط من النقد حالة من الاستقطاب المزمن حيث يتمُّ التركيز على مهاجمة الدولة بوصفها مصدراً للشر المطلق من دون تقديم بدائل واقعية، وهو ما يعمق الفجوة بين السلطة والمجتمع ويؤخِّر تشكُّل توافقات وطنية ضرورية لإعادة البناء. وبالتالي فإنَّ نقد الدولة في هذه الحالة لا يؤدِّي بالضرورة إلى دفع العملية السياسية نحو الأمام، بل قد يعيد إنتاج دوَّامة الانقسام ويكرِّس حضور نخب جديدة تبحث عن شرعية عبر الرفض المطلق.
وممَّا يزيد هذه الظاهرة تعقيداً أنَّ الدولة الجديدة في سوريا ما زالت في طور التشكُّل، وأنَّ مساحات الفعل المدني والسياسي لم تستقر بعد، وهذا ما يسمح بوجود هامش واسع للنقد غير المنظَّم الذي يتحوَّل إلى قناة فردية للتعبير أكثر منه نشاطاً جماعياً منظَّماً يخضع لبرامج أو استراتيجيات واضحة. وبغياب الأحزاب القوية والمؤسسات الوسيطة التي يمكن أن تؤطِّر النقد وتوجهه نحو قنوات مؤسسية، يتكثَّف النقد في صور شخصية أو إعلامية تستند إلى قدرة الناقد على اجتذاب المتابعين لا إلى مشروعه السياسي أو الفكري. وبهذا تصبح معايير النجاح في المجال العام مرتبطة بالظهور الإعلامي وعدد المتابعين والتفاعل الرقمي أكثر ممَّا هي مرتبطة بمدى قوة الأفكار أو عمقها. وهذا بدوره يعكس تحولات أعمق في بنية المجال العمومي حيث تحلُّ الشهرة محلَّ الشرعية المعرفية أو السياسية.
إنَّ نقد الدولة الجديدة في سوريا أصبح في كثير من الحالات وسيلة لإنتاج حضور شخصي أكثر من كونه ممارسة سياسية أو معرفية تهدف إلى التغيير.
إنَّ نقد الدولة الجديدة في سوريا بوصفه وسيلة للظهور يعكس كذلك ديناميات التحوُّل في علاقة المثقف بالسلطة، إذ لم يعد المثقف مجرد مراقب أو ناقد أكاديمي يسعى لتقديم بدائل تحليلية، وإنَّما تحوَّل إلى فاعل يلاحق الاعتراف الجماهيري عبر مواقف حادَّة تعزِّز مكانته الشخصية. هذا التحوُّل يكشف عن أزمة في الدور التقليدي للمثقف الذي كان يستمدُّ شرعيته من إنتاج معرفة نقدية متماسكة، أمَّا اليوم فإنَّ شرعيته غالباً ما تُبنى على الحضور الإعلامي والتفاعل الجماهيري، ما يطرح إشكاليات عميقة تتعلَّق بمستقبل الخطاب العام ومستوى النقاش السياسي في سوريا. ففي حين تحتاج البلاد إلى خطاب نقدي رصين يسهم في بناء الدولة وإعادة التماسك الاجتماعي، يغرق الفضاء العام في خطابات استعراضية قد تمنح أصحابها مكانة شخصية لكنَّها لا تقدِّم حلولاً عملية ولا تؤسِّس لرؤية مشتركة.
ختاماً، يمكن القول إنَّ نقد الدولة الجديدة في سوريا أصبح في كثير من الحالات وسيلة لإنتاج حضور شخصي أكثر من كونه ممارسة سياسية أو معرفية تهدف إلى التغيير، وإنَّ هذه الظاهرة تحمل في طياتها مخاطر جدية على مستوى إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وعلى مستوى تطوير حياة سياسية صحية قادرة على استيعاب التعددية والاختلاف. وإذا لم تتمكَّن المؤسسات الناشئة من خلق آليات تشجِّع النقد البنَّاء وتكبح النزعة الاستعراضية، فإنَّ المجال العام سيظلُّ ساحة لتنازع الأصوات الباحثة عن ظهور فردي بدل أن يكون فضاءً للحوار الجماعي المنتج.
المصدر: تلفزيون سوريا