يعيش الإنسان الفلسطيني العادي والمقاوم دون سلاح ثقافة المقاومة للاحتلال في أتون من الجحيم، والمجازر للأطفال والنساء والمسنين ،وقصف المباني والمنازل، وغياب الطعام، والماء، والدواء ، والهجرة القسرية ، والعقاب الجماعي ، والتطهير العرقي ، والأبادة الجماعية . إنها الحياة المحمولة علي الشهادة ، وقطع الايادي والارجل وفقد البصر والجروح الدامية ، وذلك تحت عواصف وأحزمة النيران التى تحاصر الجميع ! الموتي ساكنون تحت الحطام، والحياة للآخرين تعاش عسيرة وقاسية عند حافة الموت المحلق فوق زمن غزة، حيث لا توجد سوى جثث المدنيين، والأطفال، وصخب القذائف، والصواريخ، وغارات الطائرات وأزيزها. حالة هى أقرب إلى الجنون الإسرائيلي المتدثر بالميثولوجيا التوراتية بعد صدمة طوفان الأقصى، في مواجهة المقاومة الفلسطينية، وهى تمارس حقها فى الدفاع عن أشجار الزيتون، ونبات الزعتر ، والأراضى، ومعنى الوطن، وتجذر الفلسطينى فى ثراه الوطني . هل تستطيع الكتابة حمل هذه الحالة التي تبدو جحيمية ، في زمن الصورة ، وزمن الفيديوهات الطلقة ، والفضائيات ، ووسائل التواصل الاجتماعي ؟! حيث الأخبار المتدفقة بسرعات فائقة عن الموت والدم الذي يسيل مدرارا من الأطفال والنساء والشيوخ من المدنيين العزل ؟!
أي سردية تلك التي تستطيع نثريا أو روائيًا أن تحمل في ثناياها كل هذه المعانى؟ هل هى أنساق اللغة السياسية، وسرودها، ومصطلحاتها التى تبدو جافة وباردة ، بل وميته من فرط تكراراها فى مواجهة كلُ هذا الجحيم ؟! سردية السياسي محمولة علي لغة اصطلاحية باردة، واهنة لا تستطيع نقل كل هذه الفيوض من لغة الحواس الميتة ، أو التى تصرخ من أعماق أنسجتها، ودماءها الملتحمة بأشجار الزيتون، ونبات الزعتر، والمعنى الجليل لثرى الوطن، رافضة بحسم الإقتلاع من خلاياه، وأنسجته، التى تشكل حواس الفلسطينى، ومشاعره، وروحه وعقله المسكون بمعنى الوطن !. أى لغة أو سردية تلك القادرة على حمل هذه التراجيديا الإنسانية من اللحم والدم والتراب، والشجاعة، والمقاومة، والجوع، والجراح، والألم المتدفق من روح الانسان الأعزل ؟
أى خطاب سياسي أو أدبي هذا القادر على وصف هذه الأساطير التوراتية التى يرفعها المتطرفين الدينيين الإسرائيليين، لشرعنه هذا الاحتلال الاستيطانى الغاشم ؟!، وبعضهم من قادتهم السياسيين اليمينيين المتطرفين الذين يرفعون هذا القناع التوراتي كما فعل مندوبهم فى الأمم المتحدة، ويلغو بالعبرية ويرفعون ” التناخ ” “سأقيم عهدى بينى وبينك، وبين نسلك بعدك وأعطى لك ولنسلك بعدك كل أرض كنعان فى أجيالهم كعهد أبدى.. وسأكون إله لهم..” ، وأن هذا هو دليل ملكيتنا لأرضنا. وأن كل علاقتنا بإسرائيل يبدأ من هنا!” !!
هذا الجنون الميثولوجى المؤسطر وضعيًا، وسياسيا من ذا الذي يستطيع أن يحمله سرديًا، أو تحليليا، فى عالم غربى، فقد بعضًا من وجه الأخلاقى، وقيمه الإنسانية والسياسية المؤسسة على الحرية، عندما ينحاز بعضه بمسيحيته الصهوينية – في أمريكا وأوروبا – إلى جانب هذه الأساطير المصطنعة، ويدعمها بالمال، والسلاح، والسياسة ؟! كل هذه الكراهية لنا! وجذورها الغائرة فى بعض الضمير الغربى تجاهنا، وإزاء الفلسطينى المنغرس فى أعماق جيولوجيا أرضه التاريخية! من القادر على سرد هذه الصور والحكايات عبر انساق اللغة ؟ أي سردية تلك التي تستطيع التوقف أمام هذا الأنفجار للغة العنف والحرب فائقة الكراهية التي تنسال من بعض قادة اليمين الديني المتطرف ، وخطاب مجلس الحرب المصغر، ووزير التراث إلياهو عميحاي ، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش ؟!
ما هى اللغة ومجازاتها، القادرة على حمل لغة الأطفال صغار السن، من الخارجين من تحت القصف، وتدمير المنازل، بلا أب وأم وأخوة، وهم يصفون ما حدث لهم؟
انظر إلى الفيديوهات الطلقة على وسائل التواصل الاجتماعى، والتلفازات الفضائية، وأنصت إلى اللغة الطفولية، وإلى ملامح الوجوه التى يسكنها الرعب، والخوف والاجسام المرتعشة! انظر إلى الوجوه، والرؤوس، والأجساد الجريحة، والى ارتعاشات الأيدي والأرجل الطفولية التى غشاها الخوف، وكتل الأحجار المهدمة قبل إنقاذهم البالغ الصعوبة !.
أنصت إلى اللغة الطفولية، ومفرداتها التى تمازجت، وتناصت مع لغة الكبار، براءة محمولة على نضج صنع من ثقافة المقاومة كنمط حياة فى قطاع غزة، فى ظل نقص المياه، والطعام والدواء، والبحث عن مكان آمنً، حيث لا أمان.
أى لغة هذه القادرة على حمل هذه الحالة الدرامية، بل التراجيدية ؟.. أى لغة تستطيع حمل تحول الجندى الإسرائيلي من أسطورة الرجل الأعلى – ” السوبر مان” – إلى جزء عضوي من رهابًُ الخوف ، وإلى إنسان عادى امام جسارة المقاوم حافي القدمين ؟
لا توجد سوى لغة الشعر، ومجازاتها، وعوالمها القادرة على حمل المأساة، والشجاعة، والمقاومة، والموت، والألم، والصرخات، والقصف الجوى والمدفعى، والحياة خارج المنازل المهدمة، والمستشفيات التى تضرب، وتحاصر.. إلخ.
اللغة وفق بعضهم مسكن الوجود ، واللغة هي العالم ، ومن ثم الشعر، واللغة الشاعرة هى القادرة على حملُ كل هذه الصور، والحواس المتفجرة بالألم، والصراخ، والصمود، والشجاعة، والتعايش مع الموت الذى بات رفيق الإنسان الفلسطيني العادي.
هنا نستطيع القول أن حالة التخييل الشعرى ربما لاتساوق بعضها، صدمة الصور الفوتوغرافية، والفيديوهات الطلقة، ومشاهد الحرب فى وحشيتها، أو جسارة المقاومة، أو براءة الأطفال التى استوت على نضجها فى آتون الحرب الدامية.
اللغة الشعرية، والتجربة الشعرية هنا لا ترتكز على المعايشة المباشرة، إلا للشاعر الذى خرج من بين جحيمها، وأعطافها، من الشعراء الفلسطينيين، اما الشعراء الآخرين من مصر، وعالمنا العربى، تبدو تجربتهم الشعرية بصرية، حيث اعتمدوا على التمثل البصرى الفوتوغرافي، والفيديوهاتى علي الفضائيات، وأيضا من مواقع التواصل الاجتماعى ومنشوراته، وتغريداته، وفيديوهاته المبثوثة على هذه المواقع.
من هنا نحن إزاء شعرية ترتكز علي أثر حركية الشرائط الفيديوهاتية الطلقة فى التجربة الشعرية، وبعض اللغة الرقمية التى تعكس حالة الدراما الشعرية، والبصرية فى القصائد، ومعها استدعاءات الشاعر/ الشاعرة لرأسماله اللغوى، والمجازى فى بناء القصيدة، والانتقال من البصرى، والمشاعرى المباشر، واللحظى إلى ما وراء الحالة، وصورها، ومشاهدها القاسية، أو جسارة المقاومين للعدوان المتدثر بالأقنعة التوراتية النصوصية، لتبرير وشرعنة وحشيته تجاه الأبرياء المغروسين فى ثري الوطن وتاريخه . نحن إزاء شعرية اللحظة البصرية، حيث يبتعد المخيال والتخييل الشعرى عن زمن الشعرية العمودية، والتفعيلية إلى شعرية الصورة، والفيديو الطلقة السريع، كي يستنطق ما وراءها، ويستدعى، الرموز، والأساطير، والمجازات المحمولة على التاريخ، والفلسفة، والفن والتصور التشكيلية ليصعد باللحظة إلى افاق رحبه، وانسانوية .
التجربة الشعرية فى سياقات الثورة الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعى، تبدو مختلفة، عن التجارب السابقة وتجعل التخييل صعب، وتؤثر على الصور والمجازات الشعرية المستمدة من فضاءاتها !.
كل قصائد ديوان ( ما قالته غزة )، بها بعض من لحظية الحدث/ الكارثة، والبطولة/ المقاومة، والأهم ثقافة مقاومة الإنسان العادى، بطولة الإنسان العادى، وحياته فى قلب الموت، وعلى هوامشه، وتحوله إلى جزء من تفصيلات اليومى، والمشهدى، واشتهاءاته بديلا عن الحياة كموت فى ذاتها، بل أكثر من كونها حياة أقسى من الموت. قصيدة جسارة غزة الأراضى والإنسان الفلسطيني العادي، هى قصيدة التفاصيل المشهدية، والأهم ما وراءها. بعض من أثر المباشرة الحدثية تتجلى فى عديد القصائد، بالنظر إلى طبيعة المأساة، وانهمار الصواريخ، والقنابل، والرصاص، والجوع، والعطش، وغياب الماء والدواء وتدمير المبانى، والفقد، والتعاضد الانسانى، وهجر الأمكنة قسريًا، سعيا وراء أماكن أمنه تبدو عسيرة الوصول إليها، وتبدو حينًا كوهم.
عالمُ من التفاصيل، والمشاهد الدامية، المترعة بالنزف المشاعرى، والجروح الحواسية، والذاكرة الكابوسية ، هو مركز انهمار الصور، واللغة، والفيديوهات الوجيزة جدا والمكثفة، والخطاب اليومى، واللحظى فى القطاع، وفى الضفة الغربية، ومعه خطابات بعض القادة السياسيين فى الغرب التى تتسم بالخواء، والكذب، وتبرير المذابح والعدوان الإسرائيلي الوحشي !. بعض اللغو السياسى الغربي والأمريكي انحسرت عنه إدعاءات القيم الأخلاقية والسياسية والإنسانية، والقانون الدولى العام، وقانون الحرب، والقانون الدولى الانسانى.
مع ذلك ثمة صحوة للأجيال الشابة الحرة فى الغرب التي ترفض المذابح، والقتل للأبرياء من المدنيين العزل، وخاصة الأطفال والنساء، وكبار السن، وتكاثر أعداد الموتى والمفقودين والجرحى فى أرقام متزايدة يوميا ، وحطام لم تشهده ألمانيا فى اثناء هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية.
من هنا، من قلب الفيديوهات الطلقة ، والتفاصيل، والمشهدية تأسست قصائد الديوان “ما قالته غزة”، والمعبرة عن تجارب بصرية، ولحظية، ومشهدية خاطفة، ومن خلال اللغة الشعرية المساوقة لها وبعض من المباشرة !.
تجمعت هذه القصائد فى هذا الديوان، فى سرعة وموقفية شاهدة علي أحداث حرب دامية محاطة بالصمت، والعجز، والتصدع، والتفكك، والفشل العربى الجماعى، حيث لا يجد صراخ الأطفال، والنساء صدى فى هذا الخواء، والفراغ ! من هنا مجد ثقافة مقاومة الشعب والانسان العادي، مجد الجسارة فى مواجهة الموت والتعايش معه. الشكر واجب على أبداع زميلنا بالأهرام الفنان الكبير/ أحمد اللباد، وتصميم الغلاف المبدع كعادته، وأيضا لرسومه الداخلية، وتنسيقه للديوان فى رهافة، وخيال تشكيلى رفيع، وحس فنى مرهف، فشكرًا له، ولدار النشر، ولكل من شارك فى هذا الديوان.
المصدر: الأهرام