
يعكس الصراع بين الاتحاد العام التونسي للشغل والسلطة مشهداً مألوفاً في العالم العربي وأفريقيا، سلطة مركزية صاعدة تعمل على تفكيك كل البنى الوسيطة التي يمكن أن تشكّل تحدّياً لهيمنتها، ونقابة عريقة فقدت بوصلة دورها التاريخي، فوجدت نفسها بين مطرقة النظام وسندان أخطائها الذاتية. لكن ما يميز الحالة التونسية أن هذه النقابة كانت يوماً عنواناً للقوة الاجتماعية المستقلة، بل طرفاً أساسياً في صناعة التحوّلات السياسية الكبرى، قبل أن تتحوّل إلى جزءٍ من لعبة السلطة، ثم إلى هدف لها.
خلال العشرية الديمقراطية، لم يكن الاتحاد مجرّد ممثل للشغالين، بل لاعباً سياسياً يفرض شروطه على الحكومات المنتخبة. وعوض أن يستثمر وزنه في دعم إصلاحات هيكلية تنقذ البلاد من أزماتها المالية، استخدم نفوذه النقابي لإفشال أغلب محاولات الإصلاح أو تعطيلها، ففي ملفات مثل إعادة هيكلة المؤسّسات العمومية، وإصلاح منظومة الدعم، أو تعديل النظام الجبائي، كان موقف الاتحاد في الغالب دفاعياً ومحكوماً بالمكاسب الآنية، من دون رؤية شاملة للمصلحة الوطنية. والنتيجة أن تونس وصلت إلى أعتاب الانهيار المالي، وهي مثقلة بمؤسّسات خاسرة، وموازنات منهكة، وفاتورة دعم تستنزف الخزينة.
ثم جاءت محطة 25 يوليو/ تموز 2021، حين أقدم الرئيس قيس سعيّد على تجميد البرلمان وإقالة الحكومة. هنا، كان الاتحاد أمام اختبار تاريخي، إما الاصطفاف الصريح إلى جانب الديمقراطية التي كان جزءاً من هندستها في 2013، أو الانحياز لخطاب السلطة الجديدة. لكنه اختار الصمت الموارب، وفضّل الاكتفاء بخطابٍ عام عن “الاستجابة لمطالب الشعب”، و”توضيح خريطة الطريق”، تاركاً الانطباع بأنه يراهن على علاقة مرنة مع الرئيس، تضمن له استمرار نفوذه في المشهد الجديد.
بمجرّد أن أحكمت السلطة قبضتها وأضعفت القوى المعارضة الأخرى، انقلبت على الاتحاد العام التونسي للشغل
ليس هذا النمط من الحسابات خاصّاً بتونس، ففي مصر بعد 2013، تحالفت بعض النقابات المهنية مع السلطة الجديدة، اعتقاداً منها أنها ستضمن حماية مصالحها، لكنها وجدت نفسها لاحقاً تحت قوانين مقيّدة ومجالس مؤقتة معينة من الدولة. وفي السودان، بعد سقوط البشير، تحالفت بعض لجان المقاومة والنقابات مع المكون العسكري في محطات معينة، قبل أن تكتشف أن الهدف كان كسب الوقت وتفتيت الصفوف. وفي المغرب، كثيراً ما استخدمت الحكومات سياسة “التقريب ثم الإضعاف” مع النقابات، فهي تمنحها تنازلاتٍ محدودة في البداية، ثم تقلّص دورها تدريجياً عبر القوانين أو التهميش الإعلامي.
في تونس، لم يختلف المشهد كثيراً، فالسلطة منحت الاتحاد، في البداية، مساحة للتحرّك النقابي المحدود، وتغاضت عن بعض احتجاجاته، لتوظّفه ضمنيّاً صمام أمان اجتماعي أو واجهة تؤكّد وجود قدرٍ من التعدّدية. لكن بمجرّد أن أحكمت قبضتها وأضعفت القوى المعارضة الأخرى، انقلبت عليه، فبدأت حملات التشويه الإعلامي، والتلويح بملفات فساد، وصولاً إلى تحريك الشارع الموالي ضد مقرّه وقياداته.
مثّلت الأزمة أخيراً بين الاتحاد والسلطة ذروة هذا المسار، إثر إضراب عام في قطاع النقل البرّي، أثار غضب الشارع الموالي للرئيس، الذي تجمّع في 7 أغسطس/ آب الجاري أمام المقر المركزي للاتحاد مطالباً بحلّه، وواصفاً إياه بالعصابة.
واتّهم الاتحاد السلطة بتأجيج الاحتجاجات وتمويلها، بل وتجنيد أطفال فيها، بينما تزامنت هذه التحرّكات مع خطاب للرئيس أكد فيه أن قوات الأمن ستؤمّن المقر، في إشارة فُهمت تغطية سياسية للاحتجاجات. لم يتأخّر ردّ الاتحاد، إذ دعا إلى اجتماع طارئ للهيئة الإدارية في 11 أغسطس، معلناً رفضه الاعتداءات، ومؤكّداً أنه منفتح على الحوار الجدّي، لكنه حمّل السلطة مسؤولية التصعيد.
إذا واصل الاتحاد إدارة أزمته بالعقلية نفسها التي قادته إلى هذا المأزق، فقد لا تختلف نهايته كثيراً عن نهاية نقاباتٍ عربية أخرى
لم تكن الأزمة خارجية فقط، فالمنظمة تعيش بدورها انقسامات حادّة منذ 2024، حين انسحب خمسة أعضاء من مكتبها التنفيذي، واتهموا القيادة بالاحتكار، مطالبين بمؤتمر انتخابي مبكّر، ما أدّى إلى اعتصاماتٍ أمام المقر المركزي وأضعف الجبهة الداخلية في لحظة حسّاسة. وقد جعل هذا الانقسام الداخلي الاتحاد أقلّ قدرة على مواجهة السلطة، خصوصاً مع انسداد قنوات الحوار وإقصائه من ملفات كبرى، كإصلاح قانون الشغل أو إنشاء صندوق البطالة. ووسط هذا الانسداد، بدا واضحاً أن الأزمة ليست مجرّد خلاف ظرفي، بل هي جزء من عملية إعادة رسم المشهد الاجتماعي في تونس، على نحوٍ يلغي أو يهمّش كل الأجسام الوسيطة التي يمكن أن توازن السلطة.
يجد الاتحاد نفسه، الآن، أمام معضلة وجودية، سلطة لا تقبل بوجود شركاء أو وسطاء، من جهة، وإرث ثقيل من الأخطاء السياسية والنقابية التي أفقدته ثقة جزءٍ من الشارع، من جهة أخرى. ويقول السياق الإقليمي إن مثل هذه المعارك غالباً ما تنتهي بتحجيم النقابات أو تدجينها، إلا إذا استطاعت إعادة بناء شرعيتها الشعبية على أسسٍ جديدة، تعيدها إلى دورها التاريخي قوة اجتماعية مستقلة، لا جزءاً من لعبة السلطة. أما إذا واصل الاتحاد إدارة أزمته بالعقلية نفسها التي قادته إلى هذا المأزق، فقد لا تختلف نهايته كثيراً عن نهاية نقاباتٍ عربيةٍ أخرى، تحوّلت من فاعلٍ مؤثّر إلى شاهدٍ صامت، ثم إلى مجرّد صفحة في كتاب الماضي.
المصدر: العربي الجديد