
في الديمقراطيات العريقة لم تعد قواها وأحزابها تتحرك على وقع الأيديولوجيا، ولا تتقدم للناس بدور هذه الأيديولوجيا أو تلك في النهوض بأوطانها، بل إن الأيديولوجيا في العالم تعاني من تراجع ونكسه على صعيد الرأي العام، وحتى صعود اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا لم يكن صعوده بتقديم رؤيته الأيديولوجية المتميزة وإنما بتقديم مشروعه السياسي الذي يخدم أغلبية المواطنين بتلك الدول.
اليوم لم يعد التنافس على الأيديولوجيات هو الذي يحشد الناس حول هذا الحزب أو ذاك ، أو حول هذه السلطة أو تلك .. الذي يفعل فعله في تكوين التفاف الرأي العالم لأي جهة سياسية أو لأي إدارة في الدولة هو البرنامج السياسي الذي يتضمن بشكل أساسي حاجات الناس وكيفية تحقيقها ..
في سوريا عانى الناس قبل سقوط النظام بافتقاد أوليات الحياة الكريمة ، والنظام الساقط أفلت العنان لمجموعة من المافيات التي تدور بفلكه وتعمل على ابتزاز الشعب وسرقة موارده ، وإفقاره وإذلاله ، في تطبيق لمقولة ” جوع كلبك يلحقك ” ..
بسقوط النظام المافيوي البائد ، استبشر الناس خيراً ، وعم الفرح قلوب الشعب ، ليس لأنه تحرر من نظام دكتاتوري قاتل ، وإنما لانه رأى في هذا السقوط المدوي أملاً في تغيير حياته ومستوى معيشته ، خاصة وأن الذين حرروا المدن السورية بشروا الناس بأنه بعد الٱن لن يعيشوا في حالة عوذ وفقر ، وأن الرواتب ستزيد أربعمائه بالمئة مع انخفاض في أسعار السلع ، وأن الكهرباء ستغطي الأربع والعشرين ساعة في اليوم ، وأن الفساد والرشاوي والأتاوات ستتوقف ، ورسموا صوراً جميلة لحياة جديدة للمواطنين ..
وبعد ثمانية أشهر ونيف ، لم يرى المواطنين نتائج ما سمعوه وانتظروا .. ولا زالوا ينتظرون .. كما لم يلمسوا أي إيجابية مما تم ترويجه بارتكاز الاقتصاد على حرية السوق والمنافسة ، إلا توقف عجلة الإنتاج في كثير من المهن وانتشار عمليات استيراد وتهريب لكثير من السلع دون حماية أصحاب المهن والمصانع ، مما أدى لشل دوران الإنتاج وتوقفه ، وبقاء ٱلاف المواطنين وأسرهم خارج الورشات والمصانع كعاطلين عن العمل .. فحرية السوق والمنافسة الحرة لا يمكن تطبيقها في ظل وضع اقتصادي محطم ومنهار ، ولا بد من مرحلة انتقالية للاقتصاد ليتعافى ، بالعمل على تحريك قوى الإنتاج المحلية ودعمها لاستقرار إنتاجها بما يلبي حاجات الناس ، لا الاعتماد على تهريب البضائع والمنتجات أو ما يسمى الاستيراد المقنع المعفي من الرسوم والضرائب على حساب المنتجات الوطنية ، وما يتطلب ذلك ، دعم دخول الرأسمال السوري من الخارج إلى الداخل وتسهيل دخوله من أجل خلق بيئة صناعية وتجارية سورية قادرة على المنافسة .. وما زاد الوضع سوءاً وإحجام الرأسمال السوري وحتى الخارجي للاستثمار عدم وجود الاستقرار السياسي بفعل عوامل كثيرة منها عدم وجود خارطة طريق للانتقال السياسي المنظم والمنتظم يتشارك فيه السوريون جميعاً ويساهموا بقدراتهم وإمكاناتهم وشبابهم ونخبهم في هذا الانتقال إلى دولة قوية تصون الحقوق والحدود ، وأيضاً لم يلمس السوريون تحسناً في مستوى حياتهم ، حتى الزيادة الأخيرة 200 % – التي لم تصل لكافة الموظفين والعاملين – ابتلعتها زيادة الأسعار من الخبز ( كان 500 ليرة الربطة إلى 4000 ليرة ) إلى زيادة أسعار المواصلات ( من 800 ليرة السرفيس إلى 3000 ليرة وقبل شهر أصبحت 2000 ) ، هذا عدا الزيادة في أسعار الكهرباء والماء والنت ، وزيادة في قيمة الطوابع والرسوم والضرائب …. بحيث أن زيادة الراتب دخلت في جيب الموظف وخرجت من الجيب الٱخر .. هذا عدا عودة الفساد التدريجي في الدوائر والمؤسسات ( رغم وضع الإعلان على جدار الدوائر بعدم إعطاء رشوة لأي موظف ) فإن ما كان يتم في ظل النظام السابق قد عاد مجدداً وتدريجياً في الخفاء لعدم وجود الرقابة والمتابعة الفعلية ، مما أدى إلى استمرار قاعدة ( بدون أن تدفع لن تمشي أمورك أبداً ) بل أن فاتورة ( العطاءات ) التي يضطر أن يدفعها المواطن أصبحت أكثر مما كان يدفعه في السابق ..
أما في إطار الصحة والتعليم فحدث ولا حرج .. إذ أنه بعد التحرير كان يفترض وضع خطة لتطوير البرامج والمناهج التعليمية لرفع مستوى التعليم العام ليكون منافساً فعلياً للقطاع الخاص الذي يتقاضى أسعار خيالية في التعليم وخاصة للشهادات .. مما أدى إلى أن الكثير من الأسر السورية أوقفت تدريس أولادها لعدم قدرتها على تلبية مستلزمات التعليم ، ونتيجة مستوى معدلات الفقر التي لازالت عالية فإن الأسر السورية تدفع بأولادها إما إلى أعمال هامشية أو أعمال لا تتناسب مع أجسادهم ( ستنعكس على تشوهات بأجسادهم ) وإما ستقذف بهم إلى الشارع للتسول ( وما أكثر المتسولين في هذه الأيام ) ….
والقطاع الصحي ليس أفضل من القطاع التعليمي وخاصة المستشفيات العامة التي أصبح المواطن يخشى من إجراء أي عمل جراحي فيها ، وإذا اضطر للجراحة في مستشفيات القطاع الخاص ( فحدث ولا حرج ) إذ على المواطن أن يبيع مافوقه وما تحته من أجل معالجته أو معالجة أحد أفراد أسرته .. هذا عدا عن الارتفاع الكبير في فاتورة ( كشفية ) الأطباء عموماً ، والارتفاع الكبير في قيمة سعر الدواء …
هذا كله دون التطرق إلى سوق العقارات وأسعارها الفلكية التي لم يعد يحلم المواطن أو الشاب الذي يريد الزواج من أن يتملك بيتاً يأويه ، كما لن نتوقف أيضاً عند بدلات الإيجارات للعقارات وارتفاعها الفلكي في حال استطاع المواطن أن يجد عقاراً للإيجار في ظل الطلب الكبير على الإيجارات في جميع المحافظات السورية .
إن المواطن السوري العادي لم يعد يعنيه ماذا فعل وزير الخارجية في لقاءاته ومفاوضاته واستمرار تنقلاته بين الدول ، كما لم يعد يعنيه تشكيل لجان نيابية أو لجان تحقيق في المجازر ، أو تفاصيل الإعلان الدستوري والصلاحيات الكبرى للسلطة التنفيذية ، ولا اقتراب أو ابتعاد زمن تشكيل مجلس الشعب وممن سيتشكل، ولا الوعود المعسولة من الوزراء والمدراء وأصحاب القرار .. ما يهم المواطن السوري اليوم معيشته وعيشه الكريم ، كما لا يهم المواطن الجولات المكوكية في الخارج أو جولات بعض الوزراء في الداخل ، ومحاولة إنعاشه بالوعود التي أغلبها لم يراها ولم يلمس وجودها على أرض الواقع بما تنعكس عليه وعلى أسرته .. لذلك فإن مقولة نعوم تشومسكي فعلاً صحيحة : ” لا يوجد شيء اسمه بلد فقير ، يوجد فقط نظام فاشل في إدارة موارد البلد ” وما ينطبق على هذا القول التجربتين الناجحتين كمثال : ماليزيا ، وجنوب أفريقيا …
وإذا كان الكثير من المواطنين السوريين قد تحملوا ما لم يتحمل شعب ٱخر خلال سنوات طويلة ، فإن كل طاقتهم على التحمل قد استنفذت على ٱخرها خلال السنوات الأربعة عشرة الماضية ، .. وإذا كانوا اليوم مازالوا صابرين ويعذرون ، ويحلمون ويتحملون ، لعل وعسى أن يتم النظر إلى معاناتهم وقلة حيلتهم بما يواجهونه من عوز وفقر وحاجة ، فإن على الإدارة السياسية الجديدة ، أن تضع البرامج والخطط بإجراءات إسعافية للداخل السوري قبل استغراق جل عملها ووقتها للخارج ، فالنهوض بمستوى معيشة مواطنيها وحفظ كرامتهم أولوية لا تتقدم عليها أولوية أخرى ، .. وإلا فللصبر حدود ….
6 / 8 / 2025