
تخبرنا وكالات الأنباء أن ترامب أبدى قلقه مما يجري في غزة، فلا أراكم الله همّا ولا غمّا، ولا مكروها، فترامب قلق، وكما هي حالة الطقس المتقلب في أوروبا، فكذلك غدا حاله. البارحة أبدى استياءه أيضا مما يقوم به نتنياهو، وقبلها بأيام أبدى حُزْنه الشديد لسقوط ثلاثة قتلى من جنود الاحتلال، سبقها بقليل غارات غاشمة، استشهد فيها أكثر من ثمانين فلسطينيا، في أحد مراكز الإيواء، معظمهم أطفال ونساء، لكنه لم يرهم حتما، فمنذ متى يرى الاستعمار الفاشي ضحاياه!
كذلك أخبرتنا وكالات الأنباء، أن ترامب أجرى مكالمة هاتفية مع نتنياهو، وكان منزعجا منه جدّا، واليوم بعد شهر تقريبا، تؤكد وكالات الأنباء نفسها، أن محادثة هاتفية صاخبة جرت بينهما مُجددا. وأن ترامب لم يُكمل المُكالمة لامتعاضه، لكنه في صباح اليوم التالي، صبَّ جام غضبه على أهالي غزة، وهدد وتوعد المقاومة فيها، وطالبهم بتسليم الرهائن فورا، وإلا فسوف تتحول حياتهم إلى جحيم، وكأنهم اليوم في نعيم وفردوس مُقيم! طبعا من دون أيِّ ذكر لحوالي عشرين ألف أسير، يقبعون في سجون ومعتقلات الاحتلال، حيث يقاسون شتى صنوف التعذيب، والضغوطات النفسية، وإرهاب الدولة، ومن دون أي حديث طبعا عن التجويع المُمَنْهج، وحالات الوفيات بسبب الجوع الكافر، الذي أنكره في تصريحه اليوم معتبرا أنه سوء تغذية.
تصريحات تتوالى لقادة غربيين، ترفع السقف تارة، وتخفضه تارة، كالأسهم في البورصة، وكل هذا كلام في كلام، والجميع يُساعد الكيان ويمده بأفضل ما في ترسانته من أسلحة وذخائر
تتحدث وكالات الأنباء عن بحر دماء مستمرّ في غزة، وأن القتل والدمار المجاني على حاله، بل هو أشد من السابق في بعض المناطق. والوكالات نفسها تنقل عن مسؤول بريطاني رفيع المستوى، أن مجلس العموم البريطاني، أساس البلاء والمصائب منذ وعد بلفور المشؤوم، سوف يتخذ إجراءات رادعة بحقِّ الكيان الصهيوني، وهذا ليس بالخبر الجديد، بل يتكرر على لسان كل المسؤولين الأوروبيين أيضا، منذ بداية هذه الحرب الهمجية الظالمة على غزة. ولكن لا شيء يحدث، وكل ما يتخذونه من خطوات مجرد تصريحات أخرى، ومشاعر فضفاضة، أشبه بحبة الأسبرين التي يستخدمونها، لكي يضبطوا بها إيقاع الشرفاء من شعوبهم، ويخدروا بها البلهاء المفتونين بحبهم في بلادنا.
الدول الأوروبية مُسْتاءةٌ جدّا مما حصل، ويحصل في غزة والضفة، وها هي ذي تجتمع، لكن لم تتخذ قرارا بسبب معارضة البعض في إدانة الكيان، الذي يذبح الشعب الفلسطيني، وفي معاقل اعتقاله، فهم اضطهدوا اليهود وأرسلوهم إلى المحارق في الحرب العالمية الثانية، ونحن كعرب لا ناقة لنا، ولا جمل، في كل ما حصل، لكن علينا أن ندفع الثمن، هكذا قرر المستعمرون والإمبريالية، وأن تستباح دماء شعوبنا في هولوكست القرن، ويجب أن لا ترتفع أصواتنا، حتى لا نزعج «شعب الله المختار»، وحُماته، وإلا فنحن من أعداء آلهة السامية وأعداد الضحايا في تزايد مُسْتمرّ، والعالم يُتابع على الهواء مُباشرة عبر الفضائيات، سُقوط الشهداء الأبرياء، وهم ينتظرون في طوابير توزيع المعونات الغذائية، وآخرين يتهاوون في وسط الطرقات وشوارع غزة، بعدما أنهكهم الجوع والعطش والقهر، وأعتقد جازما، أن كل هذه المآسي التي تُبث مباشرة على الفضائيات، لا يعلم بها ترامب، وربما نتنياهو أيضا، فمن يدري، وإلا لقاما حتما بواجباتهما الإنسانية صدقوني.. يصرح المايسترو قائد الجوقة (ترامب)، فتتبعه بقية الفرقة في الدول الغربية، وساسة الكيان، وبالأخص كبيرهم نتنياهو، وبعض المثقفين في بلادنا، فيجترون العبارات والجمل نفسها غير المفيدة، حتى في هَزْهَزَة المشاعر الإنسانية.. لكن، الصحافيين والمحللين الاستراتيجيين والعسكريين في بلادنا، والحمد لله، متنبهون تماما لكل فاصلة، ونقطة، في تصريحاتهم، ويتوقفون عندها فاحصين، مُهولين تارة، ومتفائلين تارة أخرى، فهم ينتظرون تصريحاتهم ليُفكِّكوها، ويملؤون بالتالي شاشات الفضائيات صَخَبا وضجيجا، ويذهبون في تحليلاتهم بعيدا، بعد ربطها بمُؤامرات لا وجود لها أصلا، وتوقعات فلكية، وأحداث تاريخية، فيصدقهم السذج والبسطاء، بينما هم أنفسهم أساسا غير مقتنعين بما يقولون، لكنه دورهم يؤدونه بجدارة.
تنقل الصحف أن ترامب زعلان، ولكي لا يتحول زعله هذا إلى غضب، فقد قررت الدول العربية والإسلامية، ألا تجتمع بعد مؤتمر بغداد الأخير، لكونهم أصبحوا مهزلة أمام شعوبهم، وشعوب العالم أجمع الذي يتساءل، إن كان الذين يُذبحون في غزة والضفة عربا أقحاحا كبقية شعوب المنطقة، أم لا؟ ولماذا لا يدخلون إليهم المساعدات الإنسانية والطعام والماء إذن؟ وها نحن اليوم، وصلنا إلى مرحلة لم نعد نسمع لهم فيها صوتا، ولا تصريحا، وسكت شهريار الصباح عن الكلام المباح واستراح… مع العلم أنهم عندما يريدون فعل أمر ما، ويكون في ذلك مصلحةٌ لماما أمريكا والدول الاستعمارية، فسوف يتخذون القرارات الصارمة، ومؤتمر قمة القاهرة الشهير الذي أعطى أمريكا صكّا، فدمرت بموجبه الجيش العراقي خير دليل. والحق يُقال، إنه كان بودهم مُمارسة ضُغوطاتهم، لإدخال المعونات الإنسانية، والأغذية، والأدوية، وغيرها، ولكن يخافون من إزعاج إله البيت الأبيض، وربيبه نتنياهو..
العالم الغربي المنافق، الذي طالما أعطانا دروسا في حقوق الإنسان، صحيح أنه يستنكر، ويشجب، ويُعبر عن حزنه وأسفه لسقوط عشرات ألوف الضحايا، إلا أنه يرفع يافطة كبيرة مقززة «من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها» نعم، من حقها الدفاع عن نفسها، وأن تُمْعن في قتل الشعب الأعزل، الذي استولت على أراضيه وطردته منها، وإلا كيف يكون الدفاع عن النفس! ومن حقها أيضا أن تحافظ على أمنها، من دون أن يقولوا لنا إن كان قتل الأطفال، والنساء، والعجائز، وقصف المستشفيات، والوحدات الطبية، وتدمير المدارس والجامعات والبنية التحتية، والبيوت على رؤوس ساكنيها، بالإضافة إلى العربدة في لبنان وسوريا بلا رادع، والتجويع وقطع الماء والكهرباء، ومنع أكثر من 300 صنف من البضائع، والأدوية، والمواد الغذائية، من الدخول إلى غزة منذ عشرين سنة، هو من ضمن قواعد الدفاع عن النفس؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون العدوان والحرب إذن!
تصريحات تتوالى لقادة غربيين، ترفع السقف تارة، ثم تخفضه تارة أخرى، كالأسهم في البورصة، وكل هذا كلام في كلام، والجميع يُساعد الكيان بالمال، ويمده بأفضل ما في ترسانته من أسلحة وذخائر، ويدعمه بشتى الوسائل والسُّبل، ولم يتوقف عن ذلك يوما واحدا، لأن الكيان بالنسبة لهم خط دفاعهم الأول، ووكيل أعمالهم في المنطقة، وفي حوزته تكليف مطلق من قبلهم، وهو مفتاحهم وممرهم إلى الشرق الأوسط، الذي يريدونه على مقاسهم، وحسب مزاجهم. وكل سياساتهم تُحسب وتُدَوْزَن بناء على وجهة نظر الكيان المارق، وبما يتوافق مع مصالحه، ولا يمكن لأيِّ اتفاقية مع دول المنطقة أن تمر من دون رضاه، ومعرفته بكل تفاصيلها، وإن حدث شيءٌ من هذا القبيل من وراء ظهره، فالويل والعار والثبور، ويقوم بإفشاله فورا، أو ينقض عليه، كما حصل في مفاعل تموز في العراق، وكل ما يُقال عكس ذلك، فهو مُجرد كلام صحف، وإرهاصات مُحللين.
أيها السادة في الغرب المُنافق… استنكروا كما شئتم، واختاروا العبارات، ونمقوها كما تريدون، فلن يفيدكم ذلك شيئا أمام شعوبنا وأحرار العالم بعد اليوم، فقد انكشفت كل الأوراق، والعورات، أما قادة العرب وعن قناعة، فلم يعودوا يشجبون، ويستنكرون ويُصْدرون بيانات البُكاء، والنواح، والعويل كعادتهم، لأنهم مقتنعون أن الذين يُقْتلون ويُذْبحون اليوم في غزة «مُتطرفون مُخرِّبون»، هكذا قال عنهم ووصفهم ساسة الكيان، وهم يصدقون كل ما يقوله ساسة الكيان، وآلهة أمريكا، وبالتالي أراحوا أنفسهم من كل المسرحيات التي كانوا يقومون بها، وبهذه الطريقة يُظْهرون للغرب تقدميتهم، وتسامحهم مع كل ما يقوم به الكيان الغاصب، بحقِّ إخوانهم في العُروبة في غزة العزة والكرامة والصمود الأسطوري. وللتذكير فقط، فإن قلق ترامب وانزعاجه، واستياءه، وزعله.. لن يؤثر على الكيفية التي يُقتل فيها شهداؤنا، ويموت فيها ضحايانا، ولا على الإنقاص من أعدادهم، ولا على الطريقة التي يُجوَّع فيها أطفالنا ونساؤنا وشيوخنا. وختاما، الحمد لله، أن ترامب لم يغضب بعد فعليا، وإلا!
*كاتب وباحث لبناني
المصدر: القدس العربي