
التصريح الذي أدلى به ترامب، الإثنين في 14 الجاري، وأعلن فيه عن إمهال روسيا مدة 50 يوماً لعقد هدنة في أوكرانيا، أحدث عاصفة سياسية وإعلامية في العالم. ولم يقتصر الإعلان على تحديد المدة الزمنية، بل تضمن أيضاً الوعد بفرض رسوم تصل إلى 100/100 على روسيا وشركائها، في حال نفاد المدة الزمنية المعلنة ولم تعلن الهدنة بعد. وصدر الإعلان عن البيت الأبيض بحضور الأمين العالم للحلف الأطلسي، الذي أعلن ترامب أنه اتفق معه على ان يتولى الحلف نقل الأسلحة والذخائر الأميركية إلى أوكرانيا، بعد أن تتسلمها ألمانيا. ويبدو أن ترامب حرص على تواجد مارك روته أثناء الإعلان المتعلق بروسيا وبالإفراج عن الأسلحة الأميركية لأوكرانيا، لسببين على الأغلب: الأول، إفهام روسيا بأن الاختلاف الذي كانت تعول عليه بين ترامب وأوروبا والناتو بشأن إستراتيجيته في التقارب من بوتين، قد انتهى. والخطوات التي يعلن عنها تحظى بموافقة كل هذه الأطراف. ثانيا، إبلاغ ناخبيه الأميركيين حرصه على تنفيذ وعده بأن الضرائب التي يدفعوها لن تنفق على مساعدات أوكرانيا، لأن أوروبا ستتكفل بدفع ثمن الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا.
منذ أن أصدر ترامب إعلانه هذا، لم يتردد أحد في اعتباره إنذاراً إلى روسيا. لكن لا يتفق الجميع في الرأي بشأن المدة الزمنية المعلنة، واقتصار الأسلحة لأوكرانيا على الدفاعية منها ومن دون أي ذكر للهجومية. لكن الكل يجمع على التخوف من عدم مضي ترامب حتى النهاية في تنفيذ ما تضمنه إنذاره.
لا يزال الإنذار يحتل مكاناً بارزاً على صفحات مواقع الإعلام وفي نصوص المحللين السياسيين والعسكريين، إذ ثمة شبه إجماع على أنه يشكل إنعطافة كبيرة في سياسة ترامب حيال روسيا وأوكرانيا، إذا لم يتبدل مزاج ترامب.
تميز إعلام الكرملين بقلة النصوص التي تحلل الإنذار وتستنتج رأياً بشأنه، غير المدح بصمود روسيا ورفضها التعامل معها بلغة الإنذارات. فقد نقل إعلام الكرملين في 15 الجاري عن نائب وزير الخارجية للشؤون الأميركية سيرغي ريابكوف قوله إنها مرفوضة محاولات فرض المطالب والإنذارات على روسيا. وذكّر بتصريح بوتنين بأن روسيا تفضل الدبلوماسية سبيلاً للتسوية، وإذا لم تتمكن من تحقيق أهداف موسكو، فإن العمليات الحربية ستتواصل.
والملفت، بل المذهل، أن يبقى بوتين على صمته بعد مرور كل هذه الفترة على إعلان ترامب إنذاره، وهو الذي لا يتأخر عادة عن الرد والتعليق على ما يصدر عن الغرب بشأن روسيا، ولا يقترب بالأهمية من إنذار ترامب. وقد تعددت تفسيرات هذا الصمت، لكن البعض يرى أن الرجل فوجئ بالإنذار الذي عقد لسانه، وهو الذي تحدث هاتفياً للمرة السادسة إلى ترامب في 3 الشهر الجاري. والبعض الآخر يرى في هذا الصمت رغبة بوتين في عدم حرق الجسور مع ترامب، والحفاظ على شعرة معاوية معه حتى نهاية الهجوم الصيفي الروسي على أوكرانيا، الذي يحقق تقدماً يومياً ملحوظاً على جبهات القتال. ويراهن بوتين على مواصلة الهجوم تحقيق النجاحات، مما سيضيف إلى أوراقه واحدة أخرى في المفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن وقف إطلاق النار، الذي قد يكون نهاية الحرب التي تقرب ترامب خطوة كبيرة نحو نوبل للسلام.
على خلفية صمت بوتين والمخولين من المسؤولين بإبداء الرأي، عاد معظم إعلام الكرملين إلى طريقته المعهودة في قول ما يريده على لسان كتاب وصحافيين أجانب من أولئك الذين يناصبون الغرب العداء وينادون بعالم متعدد القطب.
وكالة نوفوستي أفصحت في 17 الجاري عن موعد رد بوتين على إنذار ترامب. فقد صرح الناطق بإسمه دمتري بيسكوف في رده على سؤال الصحافيين عن موعد تعليق بوتين على الإنذار بالقول إن الرئيس سيعلق إذا رأى ضرورة لذلك. وذكّر بأنه سبق أن أدلى بهذا الكلام، “وحتى الآن ليس لدي ما أضيفه”. وكان بيسكوف قد صرح سابقاً بالقول “نحن بحاجة ماسة إلى وقت لتحليل ما صدر عن واشنطن. وإذا رأى الرئيس بوتين ذلك ضروريًا، فسيُعلّق عليه بالتأكيد”، حسب صحيفة الأعمال الروسية الكبرى vedomosti في 15 الجاري.
طرحت “المدن” بعض الأسئلة على طليعة المعنيين بإنذار ترامب ورد فعل بوتين عليه، على خبيرين من الأوكران الذين يرحبون بإنذار ترامب، ويخشون في الوقت عينه من مدته الطويلة التي تمنح الهجوم الصيفي الروسي ما يحتاجه من الوقت.
رئيس مركز “السياسة” الأوكراني Oleg Lisny رأى أن إنذار ترامب هو إعلان واضح أن قضية أوكرانيا لم تطو لصالح أوهام بوتين التوسعية. ويرى أن ترامب يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، بإعلانه أن استئناف مد أوركرانيا بالأسلحة سيكون على حساب أوروبا. وقال إن بوتين يلتزم الصمت حتى الآن، في حين أبواقه تضبط نفسها في التعامل مع الإنذار، وذلك لأن الجميع يقاسم بوتين قناعته بأن روسيا ستتمكن هذا الصيف من تغيير الوضع جذرياً على جبهة القتال.
يرى Lisny في الإنذار انعطافة في سياسة ترامب حيال روسيا وأوكرانيا. وإذ يعتبر أن “الثأر” من بوتين يقف وراء خطوة ترامب، وليس مصالح أوكرانيا، يقول بأن الإنعطافة تحمل طابعاً زمنياً مؤقتاً. ومع ذلك، يرى أن الانعطافة هي بالنسبة لأوكرانيا فرصة تسمح لها على المدى المتوسط بتعزيز حماية سمائها والحصول على الأسلحة التي وعد بها بايدن ويمولها الناتو.
يعتبر الخبير أن الأسلحة التي يعد بها ترامب، بما فيها أنظمة “باتريوت”، هي أسلحة دفاعية لن تغير من مسار الحرب. فالأسلحة الهجومية والكمية الكافية منها، والتي لا ذكر لها في الإنذار، هي الكفيلة بتغيير هذا المسار.
بدوره رئيس مركز البحوث السياسية الأوكراني Vladimir Fesenko رأى أن الإنذار هو الطريقة المعتادة التي يمارس فيها ترامب ضغوطه على الطرف المعني. ويذكّر بإيران، حيث منحها ترامب في البداية مدة 60 يوماً، وبعد ذلك قصف مواقعها النووية، ومن ثم عاد يفاوضها على الهدنة.
يرى الخبير أن بوتين الصامت حتى الآن لن يقدم تنازلات تعني ضعفاً وهزيمة، بل سيحاول استئناف المفاوضات السلمية تحت النار. كما قد يحاول إجراء مفاوضات غير رسمية في الكواليس لتجديد الحوار مع ترامب. ويؤكد أن عمل بوتين على العلاقات مع الولايات المتحدة سوف ينطلق في أيلول/سبتمبر بعد انتهاء مدة الإنذار، وقد يكون في تشرين الأول/أوكتوبر، أخذاً بالاعتبار الوضع العسكري في أوكرانيا، وخطوات ترامب بعد إنتهاء مدة الإنذار.
يعتبر الخبير أن الإنذار يمثل “تحولاً مهماً” في سياسة ترامب حيال أوكرانيا وروسيا. والأهم بالنسبة لأوكرانيا، هو استئناف إمدادات السلاح وممارسة الضغط على روسيا لإنهاء الحرب ضد أوكرانيا. غير أنه لا أحد يعرف مدة انعطافة ترامب ومنهجيتها واتساقها، “لكن على أوكرانيا أن تستغلها لصالحها”.
يشير الخبير إلى أن إمدادات الأسلحة التي استؤنفت، هي تلك التي أُقرت في عهد بايدن. ومن المحتمل جداً، برأيه، أن يقوم المبعوث الأميركي المتواجد الآن في أوكرانيا بتقدير الإحتياجات الأوكرانية من الذخائر والأسلحة بأنواعها، على أن يتخذ القرار بشأنها في واشنطن. وتغيير الوضع في الجبهة يرتبط بسرعة وصول الشحنات والقدرة على تثبيت الوضع على الجبهة. وهذا بالذات سيحدد إمكانية عقد مفاوضات سلمية حقيقية.
المصدر: المدن