كفى تدعو إلى إقامة الدولة القوية من المحيط إلى الخليج

د- عاصم قبطان

كان الفكر القومي العربي في نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين الرد المباشر على ظهور القومية الطورانية التي أججها قائد تركيا مصطفى كمال الذي أسس لحزب تركيا الفتاة و جمعية الإتحاد و الترقي ، و الذي كان له اليد الطولى في تدمير الإمبراطورية العثمانية كما فعل غورباتشوف و بوريس يلتسن في إنهاء الإتحاد السوفييتي ، لم يكن المفهوم القومي العربي قبل ذلك متبلوراً بنفس الحدة و كان يتماهى مع الجسور التي تربطه بالدين الاسلامي الحنيف لكون هذه البقعة الجغرافية تعتبر مهداً للرسالات ، لقد تزامن تطور الفكر القومي العربي في نهايات القرن التاسع عشر أو فلنقل بأنه كان ردة فعل على مشاعر الكراهية ضد العرب التي رسختها مفاهيم القومية الطورانية و الحركة الكمالية في تركيا ، و التي عملت على تدمير الإمبراطورية العثمانية بأيدي القوميين الأتراك ، و لم يكن ذلك سوى الرد العملي التي عملت عليه الصهيونية العالمية بعد رفض السلطان عبد الحميد منح اليهود الموافقة لإقامة دولة إسرائيل على تراب فلسطين ، و هذه حقائق لا يشوبها أي شك .
ترافق في ذات الوقت ظهور نخب مثقفة عربية من الذين عادوا إلى سورية و لبنان من فرنسا و البلدان الأوروبية حملت ما سمي بالأفكار التنويرية التي تطورت إلى إذكاء الروح القومية العربية كردة فعل على احتقار الطورانيين للعرب و العروبة ، و التي كان من نتيجتها إعدامات الواحد و العشرين من آب 1915 و السادس من أيار 1916 في حقبة جمال باشا السفاح ، و كان منهم الشهداء عبد الحميد الزهراوي الذي اشترك مع رفاقه في تأسيس حزب الحرية والاعتدال، وحزب الائتلاف المناوئين لجمعية الاتحاد والترقي التركية، و شفيق المؤيد العظم ،الأمير عمر الجزائري، شكري العسلي، عبد الوهاب الانكليزي، رفيق رزق سلوم ورشدي الشمعة. كل هؤلاء تم إعدامهم في ساحة المرجة بدمشق ، و رافق ذلك إعدام ثلة أخرى من القوميين العرب في بيروت .
و لا نزال نؤمن أن المرحلة التي عاشتها مكونات الأمة الأصيلة التي أقامت و ما زالت تقيم على جغرافيا الشرق الأوسط كانت في عمقها فعلياً و واقعياً عروبية الهوى و الذي كرس فيها الانتماء العروبي خصوصاً بعد انقضاء النصف الأول و الانتقال إلى النصف الثاني من القرن العشرين ارتبط عضوياً بالسياسات الوطنية و القومية العربية التي كرستها القيادات و الأحزاب الثورية الجديدة التي ظهرت بعد خسارة العرب لحرب فلسطين 1948 و التي تجلت بمحاربة الاستعمار القديم الاحتلالي و الاستعمار الجديد بصوره المختلفة الاقتصادي و في تشكيل الأحلاف المكبلة لإرادات الشعوب العربية و الإنتصارات التي تحققت في عام 1956 بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إبان العدوان الثلاثي على مصر العروبة رداً على تأميم قناة السويس الذي كان المسمار الأول في نعش القوى الاستعماية و العميلة في الوطن العربي .
لقد تميزت المكونات البشرية الأصيلة في مرحلة التحرر من الاستعمار الاحتلالي و ما قبل انطلاقة الثورة المصرية في الثالث و العشرون من يوليو تموز عام 1952 ، صاحبة الجذور العميقة في الجغرافية الشرق أوسطية بتلاقيها و توحدها حول قيم الانتماء العروبي و القيم الدينية المشتركة و العادات و التقاليد كما وحدتها غريزة الالتفاف حول القيادات التي تملك كاريزما القيادة و الغيرية و الطهر و المصداقية و العطاء ، و لذلك لم تعطي شعوب المنطقة بالاً للإنتماءات القومية أو الإثنية التي أفرزت هذه القيادات الكاريزمية كما في حالات صلاح الدين الأيوبي و نور الدين زنكي و ابراهيم هنانو و سلطان باشا الأطرش و محمد كرد علي و شكري القوتللي و علي بوظو ، و غيرهم الكثير من القيادات التاريخية التي رحلت عن عالمنا المعاصر ، و إنما كان ولاؤها و التفافها حول القيادات الكاريزمية التي تميزت بها تلك الشخصيات الفذة و الآسرة من خلال انتصاراتها في صراعاتها ضد الاستعمار و الصهيونية ، و التي نتج عنها انهيار كل الحواجز و العراقيل التي تبلورت ما بين الإثنيات و الأفكار الطائفية و العشائرية ليجتمع الجميع تحت مظلة العروبة و المواطنة .
من هنا فإننا نرى في طرحنا لمفهوم العمل على إقامة الدولة القوية التي تضم جغرافياً كل مكونات المنطقة الأصيلة و نركز على كلمة الأصيلة ضرورة الاعتراف بالحقوق الإنسانية لكل هذه المكونات من المحيط إلى الخليج ، و التي زاد عديدها و بالرغم من أن الغالبية البشرية لمكونات الأمة تتمتع بالجذور العربية فإن المكونات البشرية الأصيلة الأخرى في منطقتنا باتت عديدة أيضاً و لها دورها في مستقبل المنطقة ، ابتداءً من البربر و الأمازيغ و الطوارق و النوبيين و الأقباط و الأفارقة ، و في محيطنا القريب الكرد و التركمان و الشراكسة و الأرمن ، و الآراميين و الآشوريين و السريان و غيرهم كثير ، و نحن هنا نشير إلى التباينات البشرية ما بين المكونات ، دون الولوج في الموضوع الطائفي أو الإثني فالكل هم عبادُ الله و لا ينبغي لأحدٍ أن يعلو على الآخر ، كما ورد في النص ( لا إكراهّ في الدين قد تبين الرشد من الغي ) و كما ورد في الحديث الشريف ( لا فضل لعربي على أعجميٍ و لا لأبيض على أسود إلا بالتقوى و العمل الصالح )..
إن ولاء ما يمكن أن نسميه بالأقليات للدولة الهدف و للأمة لا يمكن أن يتم إلا من خلال شعورها التام بالمساواة و بدون تحفظ مع بقية المكونات دون الرجوع إلى مفهوم الأكثرية و الأقلية و لن يتم ذلك إلا بإعطاء حقوق المواطنة الكاملة للجميع بدونِ شكٍ أو مواربة ما لم نؤمن بذلك فإننا نفسح المجال للقوى العالمية و الإقليمية و التي لا تضمر سوى الشر لهذه المنطقة بأن تبني الجسور مع ضعاف النفوس من خلال تأجيج الحقد و الكراهية ما بين مكونات المجتمع البشرية و زرع بذور الفتنة و الخراب ، و هذا ما بتنا نراه حقيقةً واقعة في الشمال الشرقي السوري من زرع بذور الفرقة التي تقف ورائها القوى الإنفصالية الكردية المتمثلة في الـ PYD و حزب العمال الكردستاني .
إن ما نطرحه الآن من أفكار لا يمثل بأي حالٍ من الأحوال انقلاباً على القومية العربية و تاريخها و تراثها ، إنما تمثل في رأينا تطوراً إيجابياً للفكر القومي في صورته الوطنية و التي تساوي تماماً ما بين كل مكونات الأمة دون منةٍ أو ريبة .
الحل الوحيد في دولتنا التي ندعوا إليها هو تطبيق مبادئ المواطنة الحقة بكل ما تعني الكلمة من معنى و التي تمنح الحقوق للجميع دون النظر إلى المكون القومي أو الإثني أو العشائري أو الطائفي ،لا بد من اليقين لدى الأغلبية بأنها لا تتصدق و لا تقدم الأعطيات للمكونات البشرية الأقلاوية و إنما تساوي نفسها مع الآخرين من المكونات البشرية و بذلك يتم قطع الطريق على كل من تسول له نفسه التآمر على مستقبل هذه المنطقة من العالم التي آن لها أن ترسخ أركانها و تحقق ذاتها و تبني مستقبلها و تقيم دولتها الواحدة رداً على محاولات التمزيق و الفدرلة بأشكالها المختلفة و الخبيثة ، و في ذلك ما يعيد بوصلةَ هذه الأمة إلى مسارها الصحيح ، و يخرجها من دائرة الولاءات للقوى العالمية و القوى الإقليمية إلى دائرة المشاركة في صنع القرار في هذه الرقعة الجغرافية و في العالم .
إن التطور التلقائي لدى أبناء المكونات البشرية و تحقيق العدالة ما بين أهل الريف و الحضر ، و تأمين الخدمات المدنية للجميع ، هو الذي سيؤدي بالنهاية إلى ذوبان الفروقات و الرواسب التي أيقظتها مشاعر الإحباط و عدم المساواة و الفقر و الجهل ، علماً بأن هذه المشاعر تمت تغذيتها من خلال أعداء الأمة إمعاناً في الكيد لها و تفتيتها للقضاء على أي توجه وحدوي يربط الجميع و من هنا فإننا نرى أن انتهاج المواطنة الصرفة هو الحل الوحيد لكل المشاكل التي تعاني منها المكونات البشرية لهذه الأمة .
نعود و نكرر بأن ما نطرحه ليست أفكار طوباوية و لا هي أحلام اليقظة ، فالأمثلة أمامنا كثيرة و كلنا ندرك كيف حققت القوى العظمى و الدول الكبيرة استقرارها و تقدمها كما في شعوب الهند و الصين و الاتحاد الروسي و الاتحاد الأوروبي و أخيراً الولايات المتحدة الأمريكية ، كل هذه الشعوب تنعم بحرياتها في معتقداتها و أفكارها و تتحدث لغاتها المختلفة ، و إن الاستمرار التلقائي لاعتماد اللغة العربية كلغةٍ رسمية و لغةً للتواصل سوف يدعم البنية الجديدة التي ندعوا إليها خاصةً أن ما يزيد عن 50% من المفردات لجميع اللغات الأخرى الأخرى في منطقتنا هي عربية ، و هذا ما يتيح المجال للتلاؤم المعرفي ما بين كل مكونات الأمة كما هي الحال في اللغة الإنكليزية المعتمدة في الولايات المتحدة الأمريكية .
لا بد لجميع السوريين على الصعيد الإقليمي و شعوب المنطقة من المحيط إلى الخليج من التلاقي سواءٌ في الداخل أو من غادر أثناء سني الأزمة ، و لا بد من عودة كل من غادر في الشتات ، للمشاركة في بناء سورية الجديدة إنطلاقاً إلى بناء الدولة الكبيرة في الشرق الأوسط و من مضيق جبل طارق في أقصى الغرب على المحيط الأطلسي إلى مضيق باب المندب في الخليج العربي ، هذه الدولة التي نعول على قيامتها لتكون النواة الجديدة التي ستلتف حولها جميع المكونات البشرية في شرقنا و لتكون الرد الحقيقي على الخنجر الصهيوني المنزرع في خاصرتنا و الذي ما زال يمثل الأخطبوط المتمدد من خلال حكام الخنوع و الخيانة الذين باعوا أهداف الأمة و شرف حرائرها من أجل المحافظة على كراسيهم و مكاسبهم ، إنها الفرصة الحقيقية لالتقاء الحكام و الجماهير لوضع الخطوات الثابتة لقيام الدولة القوية المحورية المنشودة التي ستؤمن مصالح و أهداف و أحلام و آمال و طموحات كل المكونات البشرية الأصيلة في هذه المنطقة من العالم .

المصدر: دام برس 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى