
عادت تونس لتعيش على وقع اتهامات خطيرة، ومريبة في توقيتها وسياقها، إذ تحدّثت جهات مقرّبة من السلطة عن وثيقة سرّية عثر عليها في أحد مقارّ حركة النهضة، تتضمّن (بحسب الادعاء) مخططاً لاغتيال الرئيس قيس سعيّد. ليست هذه المرّة الأولى التي تُتّهم فيها “النهضة” أو قياداتها بالتورّط في مؤامرات أمنية أو سياسية، ولكن هذه المرّة مختلفة في التوقيت والدلالات، إذ تُمهّد الطريق (على ما يبدو) لقرار سياسي بالغ الخطورة: حلّ الحركة نهائياً، وإخراجها من المشهد. والمفارقة أن هذا المسار التصعيدي لم يبدأ اليوم، فقد سبقته خطوات مُمهّدة، أبرزها قرار وزارة الداخلية في مايو/ أيار 2023 إغلاق جميع مقارّ حركة النهضة بقرار أمني مباشر، من دون صدور حكم قضائي، ما مثّل ضرباً لمبدأ حرية التنظيم السياسي، ومؤشّراً إلى المسار الأحادي الذي اختارته السلطة. هكذا، قيّد العمل الحزبي ميدانياً، تمهيداً لسيناريو الإلغاء القانوني، بعد الإلغاء العملي.
جاءت هذه الخطوات في سياق قضائي مشحون، تداخل فيه السياسي بالأمني، وتحوّلت فيه المحاكم أدواتٍ لخنق الأصوات، لا لحسم النزاعات على أسس قانونية عادلة، فمنذ حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وتعيين مجلسٍ بديلٍ موالٍ، لم تعد المحاكمات التي تستهدف رموز المعارضة، وفي مقدّمتهم قيادات “النهضة”، تُدار ضمن منطق العدالة المستقلّة، بل أصبحت تسير بإيقاع سياسي مضبوط. عشرات الملفّات فُتحت، والاتهامات توزّعت بين الإرهاب والتآمر وتبييض الأموال، من دون أن تُقدّم دلائل دامغة للرأي العام، ومن دون أن تُحسم القضايا في آجال معقولة. أضحت الإيقافات التحفّظية الطويلة، والتسريبات الإعلامية، والتشويه الممنهج، جزءاً من مشهديةٍ متكرّرةٍ تهدف إلى تجريم المعارضة و”النهضة” شعبياً، وتصفيتها سياسياً.
سيكون حلّ “النهضة” أول قرار خطير يستخدم مؤسّسات دولة ما بعد الثورة لتصفية حزب وُلِد من رحم الشرعية، شارك في التأسيس الدستوري وخاض الانتخابات وحكَم وعارَض ضمن الإطار الديمقراطي
تؤكّد المؤشّرات أن النظام الحالي ماضٍ في مسار سياسي يقوم على تفكيك الأجسام الوسيطة التي صنعت الحياة العامّة بعد الثورة، من الأحزاب والمنظمات إلى النقابات والجمعيات والمجتمع المدني. لم يكن استهداف “النهضة” استثناءً، بل جزءاً من توجّه عام يريد العودة إلى نظام مركزي، رأسي، يُلغى فيه التمثيل الوسيط لصالح علاقة مباشرة بين الرئيس والشعب. يُذكر هنا أن المؤامرات لم تكن مجرّد أدوات إعلامية، بل تحوّلت مكوّناً ثابتاً في خطاب السلطة في تونس، منذ الرسالة “المسمومة” التي قيل إنها وصلت إلى القصر الرئاسي من دون أن تُفتح أو يُثبت وجودها، مروراً بما قيل عن محاولات اغتيال، وانتهاءً بوثائق سرّية تُكتشف في مقارّ الأحزاب من دون شهود ولا إجراءات، يُراد منها ترسيخ مناخ عامّ من الخوف والتعبئة، يغيب فيه العقل، ويُشرعَن فيه الاستئصال.
وهنا يُطرح السؤال الأكثر أهميةً، هل سيكون قرار حلّ الحركة سابقة في تاريخ تونس؟… من جهة التاريخ الطويل، لا، إذ سبق أن حُلّت “النهضة” في عهد بن علي في بداية التسعينيّات، حين اتُهمت بالتآمر على النظام، وتعرّضت لحملة قمع شاملة أودت بآلاف المنتمين إليها إلى السجون والمنافي. لكن تلك الحقبة كانت تحت ظلّ نظام استبدادي لا يعترف لا بالحرية ولا بالتعدّد، ولا يُخفي عداءه للمشاركة السياسية المستقلّة. أمّا اليوم، فإن ما يُحضّر له يتم داخل نظام يدّعي أنه وُلد من رحم الثورة، وأفرزته صناديق الاقتراع، ويستند إلى دستور ينصّ على حرية التنظيم والتعدّدية السياسية. لذلك فإن حلّ |النهضة” في هذا السياق سيكون سابقةً خطيرة، ليس في تاريخ الجمهورية الثانية، بل في تاريخ الجمهورية الأولى والثانية، باعتباره أول قرار يستخدم مؤسّسات دولة ما بعد الثورة لتصفية حزب وُلِد من رحم الشرعية، وشارك في التأسيس الدستوري، وخاض الانتخابات، وحكَم وعارَض ضمن الإطار الديمقراطي.
وليس بدعة في تونس أن تُحلّ الأحزاب، وتُستهدف كيانات سياسية بأكملها، فمنذ الاستقلال حلّ الحبيب بورقيبة الحزب الدستوري الجديد ليُنشئ الحزب الاشتراكي الدستوري بديلاً منه، ومنع الحزب الشيوعي، وأُقصيت التيارات القومية من المجال العام، وفي عهد بن علي حلّ حزب الوحدة الشعبية، والاتحاد الديمقراطي الوحدوي، وغيرهما من التشكيلات التي لم تختفِ فعلياً، بل أعادت تموضعها داخل المجتمع، أو تحوّلت روافدَ فكريةً وثقافيةً نشطةً. وتلك السوابق تؤكّد أن الحلّ القانوني لا ينهي الأحزاب، بل يدفعها إلى إعادة التشكّل بطرق أخرى، ويُربك السياق الوطني أكثر مما ينظّمه.
ما يُحاك اليوم لا يستهدف “النهضة” حزباً فقط، بل يُهدّد الفكرة نفسها، فكرة التعدّد، وفكرة أن للناس حقّ الاختلاف والاختيار، وأن السلطة لا تملك تفويضاً أبدياً ولا مطلقاً لإقصاء من لا يشبهها. مخاطر هذا القرار (إن تم) تتجاوز الحسابات الحزبية، فهو لا يُخرِج حزباً من المشهد فقط، بل يؤكّد أن الدولة أصبحت أداةً في يد طرف سياسي واحد، يوزّع التهم ويُقصي ويحتكر السردية الوطنية، ثمّ إن التاريخ علّمنا أن حلّ الأحزاب لا يُنهي الفِكَر، وأن الحلّ القانوني غالباً ما يُحوّل المُستهدَف رمزاً، وقد يُعيد تشكيله بصورة أكثر انتشاراً وتأثيراً، فـ”النهضة” ليست مجرّد لافتة حزبية، بل هي امتداد لتيّار فكري واجتماعي موجود في عمق المجتمع التونسي، يمتلك امتداداً ثقافياً ودينياً وحركياً يصعب اجتثاثه كلّياً.
وما يزيد من قتامة هذا القرار “المنتظر” أنه لا يتم في سياق سياسي طبيعي يسمح للأحزاب بأن تقرّر مصيرها بحرية، بل في مناخٍ من الترويع وشيطنة العمل السياسي برمّته. والحال أن حركة النهضة، كغيرها من الكيانات التي نشأت في لحظة تاريخية مفصلية، كان بإمكانها أن تراجع ذاتها من الداخل، وأن تصل بقرار طوعي إلى إعادة تعريف وظيفتها أو حتى حلّ نفسها، إن رأت أن الغرض من وجودها قد انتهى، أو أن الزمن السياسي تجاوز بنيتها التنظيمية وخطابها الكلاسيكي، فقد كانت “النهضة”، قبل 25 يوليو/ تموز 2021، تضمّ تيّارات متعدّدة ورؤى مختلفة، تتجادل من دون تحفّظ، وتطرح أسئلةً صعبةً تتعلّق بإعادة الهيكلة، أو الدمج، أو التحوّل منصّةً أوسع، أو حتى الانسحاب من الحياة السياسية بشكلها الحزبي. تلك النقاشات، على صعوبتها، كانت جزءاً من ديناميكية داخلية حيّة، وملمحاً من ملامح تطوّر الحركة في بيئة ديمقراطية نسبية، لكن ما بعد الانقلاب أُوقف هذا المسار، وأُغلق المجال أمام هذه الأصوات، لا لأن الحركة رفضتها، بل لأن القمع العام جعل أيَّ صوت نقدي داخلها معرّضاً للتوظيف السياسي، أو يُخشى من تقاطعه الموضوعي مع أجندة السلطة في التشويه والتفكيك، فآثرت تلك الأصوات الصمت، أو الحذر، أو الابتعاد.
لا ينهي الحلّ القانوني في تونس الأحزاب، بل يدفعها إلى إعادة التشكّل بطرق أخرى، ويُربك السياق الوطني
مثل هذا القرار، لو جرى في سياق حرّ لكان انعكاساً لنضج ديمقراطي داخلي، لا علامة فشل. بل أرقى الممارسات السياسية في الديمقراطيات الحيّة أن تعرف الأحزاب متى تنسحب، ومتى تتجدّد، ومتى تُفسح الطريق. ولكن أن يُفرض الحلّ من الخارج، وبوسائل جائرة وتعسّفية، فذلك ما يُفرغ العملية السياسية من معناها، ويحوّل القضاء أداةً للإلغاء بدل أن يكون ضامناً للتعدّد والعدالة.
سيكون قرار حلّ حركة النهضة، إن اتُخذ، في جوهره، إعلان فشل السلطة في خوض معاركها داخل إطار الديمقراطية، واعترافاً بأنها لم تستطع أن تربح السياسة بالسياسة، فقرّرت أن توغل في منطق الإلغاء، لكنّه سيكون أيضاً لحظة انعطاف خطيرة في مسار تونس، تُنذر بانغلاق الحياة السياسية، وتفكّك شروط الاستقرار، وربّما تعيد البلاد إلى مربّع ما قبل الثورة “رسمياً”، ولكن باسم الثورة نفسها. وإذا كان قرار الحلّ سيُجبر “النهضة” على التراجع خطواتٍ إلى الوراء، فإنه قد يدفعها، في المقابل، إلى نضج سياسي جديد، وتفكير في صيغ بديلة، وتجديد خطابها وأدواتها، بل ربّما خروج أجيال أخرى منها، تمتلك جرأة إعادة البناء من خارج الصيغ التقليدية.
ومن هنا، لن تكون “ورقة الحلّ” شهادة وفاة، بل قد تكون شهادة ميلاد جديدة لمشروع لم يُكتب له بعد أن يُستكمَل. في النهاية، من يعتقد أنه قادر على حلّ فكرة بمرسوم، لم يفهم بعد دروس التاريخ، ولا طبيعة المجتمعات الحيّة.
المصدر: العربي الجديد