
يبدو كيان العدو الصهيوني اليوم في أوج “عظمته” وجبروته وعلّوه، يضرب في كلّ مكان، ويظهر كمن يهيمن على سماء المنطقة العربية، بل تمتدّ “يده الطويلة” إلى أبعد وأبعد، وتصريحات مسؤوليه مليئة بالخيلاء والفخر، وحتى “الفجور”، خصوصاً بعد حرب الـ12 يوماً مع إيران، وشهوة تحقيق الحلم التوراتي بامتداد الكيان من النيل إلى الفرات لم تعد حبيسة كُتبهم وكُنسهم، بل امتدّت إلى المخيال الشعبي، وصار عادياً أن يتحدّث حتى العوام في الكيان عن قرب تحقيق هذا الحلم، بل إنه أصبح “برنامج عمل” لدى بعض أحزابهم الأكثر يمينية وتطرّفاً. وفي هذه اللحظة التي يمكن أن نسمّيها تجوّزاً لحظة “الشعور الوطني المنتفخ” لدى العقل الجمعي الصهيوني، ثمّة من يتحدّث، في “الجانب الآخر” من المشهد، عن قرب زوال “إسرائيل”، بعدما وصلت لحظة العلو الأكبر التي ليس بعدها من علوٍّ إلى الانهيار.
اللافت هنا أنك لا تسمع هذا الكلام من عوام العرب والمسلمين فقط، بل يمتدّ هذا الاعتقاد إلى باحثين ودارسين ومتخصّصين في علم الدراسات المستقبلية، فضلاً عن علماء دين ومفسّرين متخصّصين في استبطان (وتفسير) آيات القرآن الكريم، التي تتحدّث عن “وعد الآخرة”، وبداية زوال الكيان. كما يلفت النظر هنا اليقين الذي يجري بلسان منكوبي غزّة، ممّن تهدّمت بيوتهم، وفقدوا مقوّمات الحياة، بل إن الحياة نفسها لم تعد متاحةً لغالبيتهم الساحقة، في ظلّ حرب التجويع والقتل والتعطيش والتشريد والمطاردة والنزوح. ومع هذا تجد من يتحدّث عن قرب العودة إلى قريته الممحوة في يافا، أو بيته الذي لم يعد موجوداً في صفد. هذه “الميتافيزيقيا” الفلسطينية بحاجة إلى دراسة في أبعادها الدينية والاجتماعية والسياسية، بالقدر الذي تحتاج للدراسة تلك الحالة الصهيونية التلمودية في الجانب الآخر.
يقول أحد أبطال رواية “الزمن الأصفر”، للكاتب العبري ديفيد غروسمان، إن الأرض المقدّسة (فلسطين) تشبه قارباً في البحر، فيه شخصان، وكي ينجو أحدهما لا بدّ من أن يغرق الآخر. تختصر هذه الصورة المشهد الكلّي للاعتقادين آنفي الذكر، فلا مكان على هذه الأرض لاثنين، إمّا نحن أو هم، فهي لا تتسّع إلا لشعب واحد، وقلّة قليلة من كلا الطرفَين (لم تعد تكاد تُرى)، لم تزل تعتقد بإمكانية التعايش بين “الشعبَين”. وفي ما يبدو، خاصّة بعد زلزال “7 أكتوبر” (2023)، انقرضت هذه الفئة أو كادت، وهيمنت في الطرفَين عقيدة زوال الطرف الآخر. في منطق التاريخ، كيان العدو لا مستقبل له، فهو نقطة في بحر “معادٍ” هادر، حتى لو امتدّ بقاء الكيان قرناً آخر، ولكن الحديث هنا عن “اليوم التالي” بتعبير الساسة، يعني هناك اعتقاد لدى الطرفَين بقرب زوال الطرف الآخر “غداً”، وهذا الغد ليس بعيداً أو مختفياً في ضباب الغيب البعيد، بل هو قاب قوسين أو أدنى من التحقّق، فأين الحقيقة في هذا المشهد السوريالي الأقرب إلى المستحيل وفق المنظور الواقعي؟
تبدو “دولة” الاحتلال كمن دخل في الحائط، ففرط القوة التي تتمتّع بها تبدو غير ذات فاعلية أمام فرط الضعف الذي يتحلّى به “عدوها“
يبدو أن كلّا من الطرفين ينتظر “معجزةً” تحسم الأمر، وتنهي المشهد لصالح أحدهما. وبما أن المعجزات لم تعد تحصل في دنيا الواقع، فلا بدّ أن حزمة من العوامل والمفاعيل العملية على الأرض ستحسم الأمر، وفي وسع أيّ عاقل اليوم أن يرى أن “دولة” الاحتلال هي كمن دخل في الحائط، ففرط القوة التي تتمتّع بها تبدو غير ذات فاعلية أمام فرط الضعف الذي يتحلّى به “عدوها”، وهو هنا ما نسمّيها نحن “المقاومة”، وهي في المعيار الفيزيائي لا تساوي شيئاً أمام قوة الكيان، فهو يتمتّع بدعم نحو أكثر من نصف قوى العالم، فثمّة جسور جوّية تعمل لمدّه بكلّ ما يحتاج من سلاح وذخائر وقطع غيار وخبراء لآلته العسكرية، وثمّة “غطاء” يحميه من المساءلة القانونية الدولية، وثمّة “فيتو” جاهز لمنع أي تفعيل للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بل ثمّة نظام عربي رسمي تجاوز مرحلة التواطؤ والخذلان إلى مرحلة الدعم المباشر، ويرافق هذا دعم عربي وغربي اقتصادي منع عملته “الوطنية” (الشيكل) من الانهيار، بفضل إجراءات حمائية ذات أذرع متعدّدة. ومع هذا الدعم اللامحدود كلّه، يفشل الكيان في حسم معركته مع 300 كيلومتر ونيّف من الأرض، تضمّ مقاومة حوصرت نحو 17 عاماً جواً وبحراً وبرّاً، فيما “يحسم” أمره مع جيوش ودول في ستّة أيام أو ساعات، و13 يوماً مع دولة شبه نووية.
وقعت “المعجزة” التي ننتظر حدوثها بالفعل، وهي صمود غزّة أمام هذه الجحافل المقاتلة من الصهاينة اليهود والعرب والغربيين، حينما يجلس رئيس أكبر دولة قرب الهاتف ينتظر ردّ أولئك المحاصرين في أنفاق غزّة على مقترحات “هدنة” صاغها مبعوثه، فهذا المشهد هو ما يمكن أن يكون مفتاح فهمنا ما يجري، وربّما يجيب عن سؤال من الذي سيكون موجوداً في “اليوم التالي”، وبالتالي، عن سرّ اليقين الفلسطيني والعربي والإسلامي بحتمية زوال إسرائيل. أمّا كيف ومتى على وجه التحديد، فتلك حكاية أخرى، لكن ما هو مؤكّد أن غداً أقرب كثيراً ممّا نتصوّر.
المصدر: العربي الجديد