في جديد محطّات الهجوم الأميركي على منظّمة التحرير

أحمد جميل عزم

أحد الدروس الشائعة في تجارب المفاوضات: لا تبدأ بتقديم الخدمة (أو التنازلات) قبل الاتفاق على المقابل. فببساطة، إذا قدّمت المطلوب منك، أو تبرّعت بالمزيد، فالطرف المقابل لن يقدّم لك شيئاً لاحقاً، أو سيكون المقابل بخساً (وفي الحالة الصهيونية سيطالب بالمزيد من دون مقابل).

جديد محطّات الهجوم الأميركي على الكيانية الفلسطينية ومنظمّاتها (منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية)، قرار المحكمة العليا الأميركية، في 20 من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، تفسيراً لقانون أقره الكونغرس الأميركي عام 2019، يمكن بموجبه مقاضاة المنظمّة والسلطة، ويحمّل القانون بشكل خاص المنظمة والسلطة، ومن يمثلهما، تبعات عمليّات عنيفة استهدفت مستوطنين وإسرائيليين، اتضح حمل بعضهم الجنسية الأميركية. ويلغي هذا القرار قرارات لمحكمة سابقة وضعت شروطاً وقيوداً تحدّ من ولاية المحاكم الأميركية على المنظمة والسلطة (تحديداً قرارات محكمة الاستئناف في الدائرة الثانية 2016، وديسمبر/ كانون الأول 2023). هذا القرار الجديد كما سيلي إيضاحه تهديد كبير للمنظّمة والسلطة، وإن كان لا يعني حكماً، بل عودة إلى المحاكم.

على غرابة القرار، فإنّه ليس مفاجئاً، فعلاوة على أخطاء تفاوضية قديمة، فالحقيقة أنه كلما زادت “مرونة” القيادات الفلسطينية و”استجاباتها”، زاد الهجوم عليها من الجميع؛ فتفقد جزءاً كبيراً من قاعدتها الشعبية، ولا تجني أي مكاسب سياسية دولية. على العكس يفسّر موقفها باعتباره ضعفاً وفرصة لتصفيتها وتصفية ما بقي من قضية فلسطينية.

قامت وزارة الخارجية الفلسطينية، والدبلوماسيون الفلسطينيون، في الماضي بجهد كبير ومميّز للتصدي لهذه القرارات الأميركية عبر المحاكم الأميركية، وأخذوا قراراتٍ مهمة لوقف الهجمة القانونية، لكن الحل الجذري لن يكون إلا سياسياً. فهناك سلسلة لا تتوقف من القوانين الأميركية التي تستهدف منظمة التحرير، وما يرتبط بها من مؤسّسات، ومن تجلياتها مثلاً، منع وزير الخارجية الفلسطيني السابق رياض المالكي، في ديسمبر/ كانون الأول 2023، من مجرّد الحديث، فكثيرون يتذكّرون المؤتمر الصحافي الذي شارك فيه في واشنطن إلى جانب وزراء عربٍ ومسلمين، يقودهم وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، ويومها كان الوزراء في زيارة للولايات المتحدة لمناقشة الشأن الفلسطيني، واضطرّ بن فرحان أن يوضح أمام الكاميرات أنّ التأشيرة الممنوحة للمالكي مشروطة بعدم الحديث، لذلك لم يرد على أسئلة الصحافيين في ذلك اللقاء.

لم تحاول قيادة منظّمة التحرير القيام بدور حقيقي في وقف الحرب في غزّة

منع وزير الخارجية الفلسطيني من الحديث، وقبل ذلك إقفال مكتب منظّمة التحرير، ووقف غالبية المساعدات للسلطة الفلسطينية، وتقييد حركات البعثة الفلسطينية للأمم المتحدة في نيويورك ونشاطها، من نتائج هذه القوانين.

لقد سنّ القانون الأميركي (Anti-Terrorism and Arms Export Amendments Act of 1987) باعتبار منظّمة التحرير حركة إرهابية، في ديسمبر/ كانون الأول 1987، أي لم يسنه الكونغرس، ولم يقرّه الرئيس الأميركي في زمن الكفاح المسلّح، بل عقب بدء مسيرة العمل السلمي، وعلى وقع انتفاضة العام 1987 الشعبية السلمية. في العام التالي عندما قدّم المجلس الوطني الفلسطيني (الجزائر 1988)، والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات تعهدات بنبذ العنف واللجوء إلى التفاوض، لم يكن ذلك بداية لإلغاء القانون الأميركي، ولم يؤد عقد مؤتمر مدريد للسلام وتوقيع اتفاقيات أوسلو المختلفة، ولاحقاً اتفاقيات الخليل وواي بلانتيشن، إلى إلغاء القانون أو تجميده. ولم يتم استغلال مفاوضات كامب ديفيد (عام 2000)، أو المفاوضات التي قادها وزير الخارجية الأميركية جون كيري عامي 2013/ 2014 لطلب تغيير حقيقي أو تجميد في هذا القانون، وتبدو هذه أخطاء تفاوضية. … النتيجة استغلال اللوبي الإسرائيلي القانون وغيره لإصدار قوانين جديدة، وأهمها منذ 2018، قانون تايلور فورس، الذي يوقف دفع مساعدات للسلطة الفلسطينية ما دامت تدفع رواتب للمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية ولعائلات الشهداء. وقانون توضيح مكافحة الإرهاب لعام 2018 (ATCA)، الذي يوسّع صلاحية المحاكم الأميركية لمحاكمة منظمات أو كيانات أجنبية تتلقى مساعدات أميركية إذا ما ثبت ضلوعها أو مسؤوليتها عن أعمال إرهابية أسفرت عن مقتل أو إصابة أميركيين. وفي 2019 أقرّ قانون Promoting Security and Justice for Victims of Terrorism، وهدفه السماح بمقاضاة السلطة الفلسطينية، ومنظّمة التحرير، أمام المحاكم الفيدرالية الأميركية.

إذا أدّى قرار المحكمة الجديد لإجازة تطبيق قرارات المحاكم الأميركية على مؤسّسات الكيانيّة الفلسطينية، تصبح السلطة مطالبة بدفع المليارات تعويضاً لأهالي قتلى أميركيين، وفعلا هناك أحكام ضد السلطة، منها حكمان مجموعهما 771 مليون دولار (116 مليون دولار في 2014، و655 مليوناً لصالح ثلاث عائلات في 2016)، وما أوقف هذه القرارات ومنع قرارات أخرى قرارات المحاكم الناقضة سالفة الذكر بفضل جهود رسمية فلسطينية تابعت القرارات. وإن كان من نتائج هذه القوانين منع فتح مكتب أو منع أي نشاط وظهور فلسطيني رسمي في الولايات المتحدة إلا بقيود وموافقات مسبقة استثنائية. ولو وصلنا إلى تطبيق قرارات المحاكم التي أقرّت الدعاوى ضد السلطة والمنظمة، فستتم ملاحقة موارد السلطة بشكل أكبر مما يجري حالياً ومنع تقديم أي مساعدات.

كلما زادت “مرونة” القيادات الفلسطينية و”استجاباتها”، زاد الهجوم عليها من الجميع، فتفقد جزءاً كبيراً من قاعدتها الشعبية

لا مؤشّر إلى أن مواقف القيادة الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023) ساعدت في تحقيق أي منجز سياسي. ولا مؤشّر إلى أنّ الموقف الفلسطيني الرسمي المعارض عمليات حركة حماس، ولا مهاجمتها في المحافل الدولية من القيادة الفلسطينية، ولا مطالبتها بتسليم المحتجزين الإسرائيليين، ولا الحملات ضد الشباب الفلسطيني المسلّح في جنين وطولكرم واعتبارهم امتداداً لمخطط إيراني، ولا تغيير قوانين الأسرى وتحويل شؤونهم إلى مؤسّسة مساعدات اجتماعية للمعوزين (تمكين)، وغير هذا قرارات كثيرة رُبطت بمطالب محدّدة. بل لم تحاول قيادة منظمة التحرير القيام بدور حقيقي في وقف الحرب في غزّة، فعندما شتم الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس حركة حماس أمام الكاميرات (إبريل/ نيسان 2025)، طالباً منها تسليم “الرهائن” لم يقل إنّ لديه أي ضمانات بوقف الحرب، أو أنه اتصل بأي جهةٍ أعطته ضمانات.

تتلاشى أوراق القوة من يد القيادة الفلسطينية يومياً، بسبب رفض تفعيل الحوار الداخلي، وتفعيل العمل الشعبي وقيادته، فكيف يمكن قبول وضع لا تكون منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد فعلاً؟ بما في ذلك في المفاوضات بشأن غزّة، وكيف يمكن أن يحدُث هذا إلا بالانفتاح على القوى الفلسطينية، ولعب دور الوسيط إنّ لم يكن الممثل؟ (تطبيق اتفاق بكين مثالاً لما يمكن فعله). وكيف يحدُث هذا من دون مجلس وطني فلسطيني تمثل فيه جميع الفصائل والقوى السياسية الحقيقية، وتمثل الأجيال الجديدة؟ ومن دون لجنة تنفيذية متجددة، منتظمة الانعقاد بكامل أركانها بدءا من رئيسها.

إذا لم يكن هناك شعور بأن القيادة الرسمية هي الرقم الصعب الذي يستطيع “قيادة” فصائل العمل الفلسطيني وقواه أو “إقناعها” بعمل موحّد، بما في ذلك الشباب في المخيمات وكل مكان، ووضع وقيادة خطّة التصدّي للمستوطنين والمستوطنات والاحتلال، فهذه قيادة لن يأخذها أحدٌ جدّياً. وبالتالي، ليس غريباً عدم اكتراث المستوى السياسي الأميركي بتقديم أي ثمن لمواقفها، وبالتالي، أيضاً لن يتم مثلا تدخل الرئيس الأميركي لوقف الكونغرس، وبالتالي المحاكم الأميركية، عن التمادي في خدمة اللوبي الإسرائيلي، وإصدار قراراتٍ غرضها تغييب منظمة التحرير الفلسطينية، وتدمّر السلطة الوطنية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى