
لستُ هنا بصوت طائفي، ولا بانفعال مذهبي.
أنا امرأة مسلمة، باحثة، أمازيغية الجذر، عربية اللسان، ألمانية التجربة. أكتب من تقاطع ثلاث هويات، لا يختزلني مذهب، ولا تُغويني الشعارات. ما أطرحه ليس طعنًا في طائفة، بل نقدًا لبنية مغلقة تُنتج دينًا داخل الدين، تُقصي باسم الولاء، وتُقدّس الجراح حتى تصير عقيدة.
تشكّل وعيي في بيت أديب فقيه، حرّ الرؤية، وعلى أرضٍ لا تُقدِّسُ الأسماء ولا تورّث الكهنوت، وفي فضاء أوروبي لا يعترف إلا بالتحرر والعقل. ومن هنا نشأ داخلي وعيٌ يرى الدين كأفقٍ للإنسان، لا كسياج طائفي، ويزن العقيدة لا بالبكاء، بل بالبرهان….،
وأؤمن أن المجاملة، حين تمس جوهر الدين، ليست حيادًا بل اصطفافًا خفيًّا يُغذي الطائفية. أما المجادلة الصادقة، فهي وحدها بوابة التغيير. ولولا هذا الإيمان، ما كتبت. فالقلم الخجول لا يغيّر شيئًا.
لقد حاولت، من منطلق التفاهم الإنساني، أن أُجامل بعض السرديات الشيعية، وأن أراها من الداخل. لكن مداركي، وقد تمرّست على النقد والتفكيك، لا تَهضم ما يُقدَّم كمسلمات مغلقة. السردية المذهبية هناك لا تُعرض للحوار، بل تُغرس في بيئة تُغلق على الفرد منافذ السؤال. ومع الزمن، تصبح المقولات الموروثة جزءًا من الهوية، لا تُمسّ، لأن نقدها يُعَدُّ خيانة. ️
أما أنا، فتكويني النقدي يصدّ هذا الذوبان. لا كبرياء، بل غريزة حرية.
انتقدتُ ذاخل الفكر السنّي مرويات سوّغت الظلم، ورفعت الطاعة فوق العدالة. لكنها، رغم ما فيها، بقيت اجتهاداتٍ بشرية تحت سقفِ الوحي. أما المرجعية الشيعية المؤدلجة، فقد أعادت تركيب الإسلام حول مفاهيم الحزن والدم والعصمة والمظلومية، حتى صار الدين طقسًا يتكرّر، لا رسالة تُحرِّر.
في المغرب، حيث نشأت، لم نُربَّ على كراهية الشيعة ولا على عداوة المختلف. نحن أبناء الإسلام المالكي، الصوفي، المتسامح، الذي صاغه العقل الجماعي على التراحم لا الثأر، وعلى النص لا الأسطورة.
أنا أمازيغية من شعب تفاعل مع الإسلام بحرية، وصاغ حضارة جمعت العربي، والأمازيغي، الصحراوي، والإيبيري، وحتى الموالين، والمحرّرين، تحت راية الإسلام المنفتح. ️
وحين دخل التشيع إلى المغرب مع الدولة الإدريسية، لم يأتِ كخصومة، بل كحب آل البيت، دون غلوّ ولا لعن. إدريس الأول، رغم نسبه العلوي، لم يؤسّس دولة شيعية، بل دولة إسلامية جامعة، ردّت الدين إلى لُحمته الأولى، خالصًا لله ورسوله، لا محصورًا في السلالة.
حين عشت في ألمانيا، رأيت وجوهًا أخرى للدين. التقيت شيعةً اعترفوا بأنهم لم يُبصروا غلوّ عاداتهم إلا حين خرجوا من مناخ الطقوس. بعضهم خرج من “مصنع الدموع”، فاكتشف الإسلام كما لم يعرفه من قبل: بلا دم، بلا لعن، بلا ضغينة. هناك فقط، في فضاء الفكر الحر، رأوا أن الدين لا يُختزل في كربلاء، وأن الحزن إن لم يتحوّل إلى قيمة، غدا عبئًا يتكرر دون معنى.
وللأمانة لم أرَ في محبة أهل السنة لآل البيت غلوًا ولا تأليهًا، بل محبة عقلانية، توقيرًا بلا عبودية، لا تحتكر الدين، ولا تستبعد المخالف. بينما المرجعية الصفوية طوّقت العقيدة بسياج الولاء، وأقصت من لا يشاركها السردية. الدين فيها يُختصر في المأساة، والهوية تُختبر بكمية الدمع. ️
الموحِّدُ يُتَّهَم، لا لذنب ارتكبه، بل لأنه لا يعيش داخل سردية الخسارة.
وهكذا، تحوّلت المرجعية من سلطة روحية إلى نظام سياسي يعزل كي يسود، ويُقدّس ويعصم كي يُطاع.
لكنّ التاريخ لا يصنعه الباكون. بل من رفعوا رؤوسهم من الماضي، وأبصروا الآتي. الغرب نهض بحرية الفكر على علوم المسلمين والإغريق والهنود، لا على الطقوس. وابن خلدون لم يبكِ على الأندلس، بل فكّك التاريخ، وصاغ منه علمًا. الوحدة أو مجد أمة لا يُبنى بالنحيب، بل بالمعرفة، والتفكير، والنقد الصريح والحرية.
الله كرّم الإنسان وسخّر له الأنبياء والكتب والرسل و كل شيء. فكيف يُطلب منه أن يسخّر عمره لندب جرحٍ نسل نبوي لم يصنعه؟
أن يُحاسَب على جغرافيا مولده، أو على صمته عن طقسٍ لم يشارك فيه؟
أنا أرفض أن يُختزل ديني في سلالة، أو أن يُفرَض عليّ ولاء مقدّس باسم الحزن. ديني لا يقوم على الثأر، ولا على اللعن، ولا على اختزال الله في حزب.
أنا مسلمة فقط. أؤمن بأن العقل من نورِ الإيمان لا من رِجس العصبية، لا أدين لحزب ولا لمرجع، بل لله، أحب آل البيت بلا تقديس، وأحترم الصحابة بلا تبجيل أعمى، وأفهم الدين من نصه، لا من ورثة الدم.
هذا ديني… لا دين الطائفة…..
منقول من صفحة الصديقة: لبنى كيسي
مقال يستحق التفكر والمشاركة، كاتبته واعية لما تقول، ولما تريد، ولمن تتوجه.
اللغة بقدر ما هي هادئة هي حاسمة وواضحة، لكن دون تعصب.
حجم النص محدود، لكنه استطاع أن يسبح إلى عمق تاريخي مهم، وأن يفكك واقعا معقدا خطرا، وأن سيرسم أفق المستقبل الممكن والبناء.
الكاتبة مغربية من “سيدات الأعمال” تحمل الجنسية الألمانية، ومتزوجة من الماني.
د. مخلص الصيادي