الظاهر والمستور في أداء السلطة السورية

عمر قدور

منذ إسقاط بشار الأسد، وتسلُّم السلطة الجديدة مكانه، بدا أن الأخيرة حاضرة جداً في الفضاء العام، أكثر بكثير مما هو اعتيادي. على السوشيال ميديا هناك كثر من المواظبين على نشر أخبار المسؤولين بكثافة، ولا ندري ما إذا كان الذين ينشرون الأخبار متطوّعين أو يعملون بأجر. في المحصلة، هناك مَن يسمح له وقته بمتابعة هذا الكمّ الهائل يومياً، وهناك مَن يطرب حقاً لهذه الأخبار، ومن المتوقع وجود غيرهم ممّن يسأمون منها، لأن معظم البشر في كافة أنحاء العالم يتابعون ما هو مهم من أخبار بلدهم، لا تلك الأخبار الروتينية الخاصة بالأداء البيروقراطي.

في تفسير متسرّع، لا يخلو من الصحة، يمكن تأويل هذه الكثافة في حضور السلطة الجديدة واستحضارها كردّ فعل على سلطة آل الأسد، التي احتكرت الفضاء العام لأكثر من نصف قرن. إلا أن وظيفة الاستحضار على هذا النحو لا تقدّم نموذجاً مختلفاً عمّا ألِفه السوريون، فالذين يستحضرون الجديد يحتفلون به طوال الوقت، والناقدون هم من خارج المحتفلين، وفي معظم الحالات يستفيد أصحاب النقد من زلات المحتفلين، ومما ينقلونه من زلات السلطة بغير انتباه منهم إليها، وعلى الأغلب بغير انتباه من السلطة نفسها لزلاتها.

حتى الآن، تغيب عن الفضاء العام المعرفةُ الحقيقية بالسلطة، والحق أن المستور منها هو أهم بكثير من الظاهر. فالسوريون اليوم ليسوا أكثر مما سبق معرفةً بآليات اتخاذ القرار ضمن السلطة، وما يتسرّب عن مستويات إدارية متوسطة يشي بوجود تراتبية مستورة خلف التراتبية الإدارية المعهودة. على سبيل المثال، تكاثر الكلام في الآونة الأخيرة عن وجود “شيخ” في كل دائرة حكومية، له القرار الفصل عند وجود خلاف، وقد تم تهديد بعض المواطنين به في حالات انتشرت على السوشيال ميديا، وتدخّل لمعالجة بعضها مسؤولون كبار، من دون المساس بتلك “المشيخة” التي لا تُعرف هيكليتها التنظيمية في “سوريا الجديدة”.

الأسبوع الأخير شهد مثالين يطرحان الأسئلة ذاتها عمّا هو مستور في السلطة، وهو المؤثّر الجدير بالمعرفة أكثر من أخبار تبادل الزيارات بين وزراء في الحكومة نفسها، والتقاطهم الصور وكأنها زيارات عمل خارجية. في المثال الأول، شهدت مدينة حلب احتفالاً في ساحتها الرئيسية، ساحة سعدالله الجابري، لمناسبة ترميمها بعدما تأذت بفعل الزمن، وبفعل سوء الاستخدام من قبل قوات الأسد أثناء الصراع مع قوات المعارضة في المدينة.

في اليوم التالي على الاحتفال، في منتصف الليل، انتشرت على وسائل التواصل صور لتكسير نصب الشهداء الموجود في الساحة منذ أربعين عاماً، ثم انتشر تسجيل تظهر فيه آلية ثقيلة في الساحة، وهي تشدّ النصب بهدف تحطيمه. ثم سرعان ما قوبل تحطيم النصب بمجموعة من الذرائع والافتراءات، ومن المستغرب جداً أن يصدر بيانٌ (فور التحطيم الذي حدث ليلاً) عن مديرية الآثار والمتاحف، يشير إلى أن عملية “نقل” تمثال الشهداء تتم في إطار إعادة تأهيل الساحة؛ الساحة التي احتُفل بتدشينها قبل يوم!

قيل في التبرير أيضاً أن مستثمر اللوحة الإعلانية الضخمة في الساحة هو الذي هدم التمثال، لأنه يحجب جزءاً من الشاشة التي تم تركيبها حديثاً، وهذا ما أشار إليه أيضاً بيان مديرية الآثار. نظرياً، نحن إزاء مستثمر (لا ندري من هو) يعطي لنفسه الحق بتحطيم منحوتة في الساحة الرئيسية لمدينة كبرى. ثم لا نسمع عن توقيفه، هو ومن معه، بجرم الاعتداء على ممتلكات عامة، كما تقتضي الأصول والقوانين. ما يعني أن هناك أناساً فوق القانون، ويستطيعون استباحة الفضاء العام كما يشتهون، ولا شيء يفسّر هذا التهاون الحكومي والقضائي أمامهم سوى أنهم ينتمون إلى الجزء المستور من السلطة.

في خلفية الحدث، كان من المتداول أن هناك جهات تنوي إزالة نصب الشهداء، لكن وجود معارضة من الأهالي الذين اعتادوا وجوده، فصار من معالم المدينة، جعل قرار الإزالة يتأخر. ثمة أمر آخر ربما عجّل بتحطيمه على هذا النحو، وهو الاحتفال الذي ستنقله الشاشة العتيدة في اليوم التالي؛ الاحتفال بإطلاق هوية بصرية جديدة للدولة السورية، وهو نموذج ثانٍ للأداء الحكومي الذي يتعدى القوانين والأصول.

شعار سوريا السابق معتمد منذ عام 1945، أي أنه سابق على عهد الأسد والبعث. وقد نص الإعلان الدستوري الحالي، في مادته الخامسة، على أن دمشق هي عاصمة “الجمهورية العربية السورية”، ويُحدد شعار الدولة ونشيدها الوطني بقانون. الصيغة تحيل إلى أن “مجلس الشعب” هو الذي سيحدد شعار الدولة، والمجلس قيد التعيين الآن، ومن المؤكد أنه لن يمانع في إقرار الهوية البصرية التي ترغب السلطة في إقرارها.

لا يُعرف لماذا استعجلت السلطة موضوع اعتماد الهوية البصرية الجديدة، إذ ليس هناك من طارئ جلل يستوجب الإسراع وعدم انتظار انعقاد المجلس الذي سيُعيَّن. ولا يُعرف مبرر للاستعجال في بلد تسعى حكومته إلى الحصول على مساعدات من هنا وهناك، بسبب الدمار الموروث، ولا تستطيع دائماً الوفاء بالتزاماتها إزاء رواتب موظفيها. في هذه الظروف المعيشية القاسية، من المستغرب الصرف ببذخ على احتفال لإطلاق هوية بصرية، وتحمّل تكاليف الاستبدال لأن اللوغو الجديد سيحلّ مكان القديم في كافة المطبوعات الرسمية وكل ما يرمز إلى الدولة السورية.

ثمة رسالة في هذا السلوك مفادها عدم التقيد بالقوانين التي ارتضتها السلطة لنفسها، يُضاف إليه عدم التقيد ببروتوكولات تصميم شعار من هذا القبيل. إذ من المعتاد في هذه الحالات وما يشبهها أن توضع الأساسيات التي يجب أن يحتويها التصميم، الحيوان الوطني والنجوم وعددها على سبيل المثال، ثمّ يعلن عن مسابقة من أجل اختيار أفضل تصميم تتولاه لجنة مختصة من بين المتسابقين. هكذا، على الأقل، سيكون من المستبعد اعتماد لوغو يتطابق فيه العُقاب مع منتج تجاري متوفر على الأنترنت، من حيث الشكل العام للطائر والتفاتة رأسه إلى اليسار وعدد الريش في الجناحين وفي الذيل.

في مثالَيْ منحوتة حلب واللوغو الذي صار شعاراً لسوريا، برز ذلك الاستئثار بالفضاء العام، خارج القانون وبما لا ينبئ بالاعتراف أساساً بفكرة الفضاء العام واحترامها. المسألة ليست في إزالة أو عدم إزالة منحوتة لا قيمة أثرية لها، وقد تكون قيمتها الجمالية موضع خلاف، فلو تُرك الأمر لمجلس محلي منتخب وقرر الإزالة لما كان الاعتراض مبدئياً. ولو سار إقرار الهوية البصرية وفق الأصول، وبلا استعجال لا تُعرف دوافعه، لما خلَّف العديد من علامات الاستفهام حول الظاهر والمستور على صعيد اتخاذ القرارات الحكومية.

التطرق إلى الفجوة بين الظاهر والمستور لا يعني غياباً مطلقاً للدلائل على المخفي، لمن يشاء الانتباه إلى المؤشرات والربط بينها. ففي الأيام الأخيرة أيضاً برز بوضوح السعي للهيمنة المطلقة على الفضاء العام، إذ حُلَّ المجلس الإسلامي السوري، وهو هيئة مستقلة، بناءً على طلب من السلطة. وبطلب من الأخيرة أيضاً حُلَّ المجلس الأهلي، المنتخب في اقتراع مستقل في مدينة مصياف. الذين أمروا بحل المجلس الأهلي لم يتعاطوا إيجاباً مع مناشدات الأهالي، عندما استمرت الحرائق في أحراش مصياف قرابة أربعة أيام، ولولا تطوع الأهالي بإخماد الحرائق ومحاصرتها لتوسعت في اتجاه سلسلة الجبال الغربية، وحدثت كارثة لا يُستبعد حتى الآن حدوثها. ربما يجوز القول، باستعارة من مصياف، إن سوريا تحتاج إلى ظاهر يتعامل بروحية الإطفائي، وإلى مخفيّ لا يشعل الحرائق، إذا كان لا مفرّ منه.

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى