صور عن تغلغل صهيوني في المغرب

محمد طيفوري

كشفت الحرب بين إيران وإسرائيل أخيراً عن مستوى التغلغل الإسرائيلي في أوساط المجتمع المدني والإعلام المغربي، فقد دبجت هيئات مدنية بيانات تساند إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد دولة إيران، وانبرت حفنة من الإعلاميين لترويج سردية تعمد إلى المقارنة بين مخاطر إيران وإسرائيل على المملكة، فيما استغل رهط من الأكاديميين جُبتهم للصراخ دفاعاً عن “مبادئ”، فصِّلت على المقاس، تقارن وقائع من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة بأخرى في إسرائيل جراء الضربات الإيرانية.

قبل اندلاع فتيل الحرب، بادرت هيئة مدنية مغمورة (المعهد المغربي لحقوق الإنسان)، مطلع شهر يوليو/ تموز الجاري، إلى تقديم مقترح يطالب بإعادة تسمية عدد من الشوارع في مدينة أغادير، تحمل حالياً أسماء شخصيات وطنية مثل: علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد… بأسماء شخصيات يهودية مغربية. مبادرة تأتي، بحسب أصحابها، في سياق ترسيخ التعددية الثقافية والاعتراف التنوع الهوياتي التي ينص عليها الدستور المغربي.

مبدئياً، لا خلاف حول الفكرة في حد ذاتها، فتحرك المجتمع المدني نحو استعادة الهوية وحفظ الذاكرة، والعمل على إشاعة ثقافة الاعتراف والتقدير، خصوصاً إذا كانت تلك الشخصيات ممن أسدى خدمات جليلة للمدينة أو الوطن، أمر محمود لن يلقى غير الإشادة والثناء من أبناء مدينة الانبعاث؛ الاسم الآخر لأغادير، التي تعرف جيداً معنى الذاكرة بعد فاجعة زلزال عام 1960. في المقابل، لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب طمس ذاكرة أخرى، كما يبدو في واقعة الحال، حيث اقترح هؤلاء استبدال تسمية شوارع في المدينة تحمل أسماء شخصيات لها رمزية تاريخية في الذاكرة المغربية؛ علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد، ما يثير أسئلة عديدة عن خلفيات اختيار هذه الشوارع بعينها؟ ثم لماذا مطلب التغيير مع وجود إمكانية تسمية شوارع جديدة في حاضرة سوس من دون إثارة أي حساسية أو استهداف لأي شخصية؟

الإجابة بسيطة للغاية، وهي أننا أمام “التطبيع الناعم” أو بعبارة أكثر دقّة “التطبيع الزاحف”، فلا تفسير غير ذلك وراء الدعوة إلى إحلال اسم الحاخام خليفة بن مالكا محل عبد الرحيم بوعبيد، واسم الاقتصادي سيمون ليفي عوضاً عن علال الفاسي في كبرى شوارع المدينة. فضلاً عن المطالبة بإطلاق اسم الفنانة نيطا الكيام على المركب الثقافي بحي الداخلة، المعروف منذ افتتاحه قبل 20 عاماً، باسم مركب محمد جمال الدرّة، وتسمية متحف إعادة إعمار المدينة باسم أورنا بعزيز، إحدى الناجيات من زلزال أغادير.

يحاجج أصحاب المبادرة بأن هذه الأسماء التي يطالبون باستبعادها أجنبية عن المدينة، ولا تربطها أية علاقة بمنطقة سوس. لكن هذا الدفع سرعان ما يتهاوى بالعودة إلى قائمة الأسماء المقترحة التي اختيرت اعتماداً على رابط الديانة (اليهودية)، قبل أي محدّد آخر بما في ذلك الانتماء الجغرافي الذي يدفع به القوم، فالمنطقة غاصّة بأسماء ورموز أدبية وفنية وسياسية… ممن قدّموا الكثير للهوية والثقافة الأمازيغيتين، ونقلوها من ضيق المحلية إلى رحاب العالمية، من دون أن يتذكرهم أحد ممن يطالبون اليوم بحماية الذاكرة أو بالأحرى يسعون إلى تحريف الذاكرة.

ينسى أنصار الصهيونية أن العلوم الإنسانية، وحتى الدقيقة، لا تنفصل عن القيم، وأن الحياد العلمي أكذوبة كبرى

بعيداً عن أغادير، شهدت مدينة الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمملكة في 24 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) واقعة مثيرة، تتلخص في إقدام المديرية الإقليمية للتربية الوطنية في منطقة مرس السلطان، على تغيير نص بعنوان “الذكرى التي لا تموت”، مقتطف من كتاب اللغة العربية المعتمد في دولة فلسطين، في اختبار لهذه المادة لمستوى السادس الابتدائي، قبل انطلاق موعد الامتحان الإشهادي بوقت وجيز، على خلفية تقييم داخلي اعتبر أن النصّ المقترح يتطرّق إلى “مجال السياسة”، ويحمل “حساسية وطنية” ما استدعى تغييره بنص آخر.

وفقاً لهذا المبرّر الواهي، يتحرّك مسؤول من أجل “الحجر” على نص أدبي، رغم احترامه كل الضوابط التي يحدّدها الإطار المرجعي للامتحان، لا لشيء سوى أنه يتطرّق إلى معاناة لاجئ فلسطيني، يصف الحلم الذي يسكنه بالعودة إلى داره ووطنه. فهل أضحى الحديث عن حقّ العودة المكفول أممياً، بموجب عدة قرارات، وتلقين الناشئة حق الفلسطينيين في وطنهم، يشكل تهديداً للمغرب الذي ما فتئ يؤكد على لسان الملك محمد السادس أن القضية الفلسطينية بدرجة قضية الوحدة الترابية للمملكة. أم أن ترويج السردية الصهيونية هو الدافع الحقيقي؟ وأي معنى للوطنية يقصد من “حجب” النص؟ هل باتت الوطنية الجديدة في المغرب إسرائيلية؟

قبل أيام فقط، كشف استعداد الرباط لاحتضان فعاليات المنتدى العالمي الخامس لعلم الاجتماع (6 و11 يوليو/ تموز الجاري) عن تغول التصهين في صفوف طائفة من المحسوبين على الوسط الأكاديمي، حين انبرى نفر من السوسيولوجيين للدفاع عن مشاركة الجمعية السوسيولوجية الإسرائيلية بوفد يضم أكثر من 30 باحثاً من جامعات إسرائيلية، بعد إعلان الهيئة المغربية للسوسيولوجيا التي تستضيف هذه الدورة رفضها استقبال هذه الهيئة لعدم إدانتها الإبادة الجماعية في غزّة. جاءت دفوعات هؤلاء أسيرة الأسطوانة المشروخة التي تردّد شعارات من قبيل: “الحياد العلمي” و”فصل العلم عن الأيديولوجيا” و”الجهل بوظيفة علم الاجتماع”… لتبرير فصل جديد من فصول التطبيع الأكاديمي في المغرب، بإضفاء الشرعية على حضور علماء الاجتماع الإسرائيليين فعاليات أكبر تجمع للسيسيولوجيا في العالم.

عبثاً، يحاول أنصار التطبيع الناعم اختراق التغوّل في المغرب من مداخيل متعدّدة، لكن جهودهم الجبارة بلا تأثير

ينسى أنصار الصهيونية أن العلوم الإنسانية، وحتى الدقيقة، لا تنفصل عن القيم، وأن الحياد العلمي أكذوبة كبرى. فضلاً عن أن إسرائيليين مشاركين هم جنود احتياط، يمكن، في أي لحظة، استدعاؤهم للمشاركة في حرب الإبادة، هذا إن لم يكن منهم من شارك فعلاً. لذلك كله قرّرت اللجنة التنفيذية للجمعية الدولية لعلم الاجتماع، الأحد الماضي (29 يونيو/ حزيران)، تجميد عضوية الجمعية الإسرائيلية رسمياً لعدم اتخاذها موقفاً واضحاً من الوضع المأساوي في غزّة، ما يضع المدافعين عن إسرائيل بمسوّغات “علمية” في موقف محرج، بعد رفض أكبر هيئة لسوسيولوجيا في العالم التماهي مع السردية الصهيونية بالمساهمة في تبييض الإبادة الجماعية في غزة.

ارتباطاً بتغوّل التطبيع دائماً، راجعت أخبار عن منع السلطات المغربية، في مايو/ أيار الماضي، المؤرّخ الإسرائيلي المناهض للصهيونية إيلان بابيه؛ أحد رموز تيار المؤرّخين الجدد، من المشاركة في ندوة علمية في مدينة الجديدة، حيث كان مرتقباً أن يشارك بمداخلة تحت عنوان “إعادة النظر في التطهير العرقي لفلسطين”… عبثاً، يحاول أنصار التطبيع الناعم اختراق التغوّل في المغرب من مداخيل متعدّدة (الإعلام، الهوية، التعليم…)، لكن جهودهم الجبارة بلا تأثير، وإن حدث وكان لها شيء من ذلك، فهي محدودة في دوائر من أضحوا معروفين في الأوساط المغربية بأصحاب “تازة قبل غزّة”؛ أي الاهتمام بمصالح الداخل قبل شؤون الخارج.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى